التعليم.. بداية جديدة فى عام دراسى جديد
قدرًا جاءت الحكومة الجديدة بوزير تعليم جديد قبيل بدء العام الدراسى بنحو شهرين ونصف الشهر، وفى الحقيقة هى فترة زمنية قصيرة بالمنظور العملى يصعب خلالها إحداث تغييرات جذرية فى الرؤى أو الخطط أو الاستراتيجيات، فما بالكم بكتلة بشرية ضخمة من العاملين بديوان الوزارة والمديريات التابعة ومئات الآلاف من المدرسين، ولا ننسى ملايين الأسر من أولياء الأمور، الذين لا مناص من التعامل معهم والتعاطى مع مطالبهم، فضلاً عن أبنائنا من التلاميذ الذين هم هدف العملية التعليمية كلها ومناط اهتمام الوطن وقيادته.
ورغم كل تلك التحديات فوجئنا بنشاط غير عادى للوزير محمد عبداللطيف، بدأه الرجل بمجرد أداء اليمين الدستورية وتلقى التكليفات من السيد رئيس الجمهورية. نشاط لم يقتصر على اجتماعات وتكليفات مباشرة يوجهها لقيادات الوزارة فى مبنى الديوان العام، ولكنه كان نشاطًا ميدانيًا امتد لعدد من المحافظات، زار خلاله الوزير مقار مدارس واجتمع بممثلين لكل عناصر العملية التعليمية، كما التقى بكثير من الكوادر المنوط بهم إنجاح العملية التعليمية أو إفشالها لا قدّر الله.
دخل الوزير، الذى جاء إلى كرسى الوزارة من بعيد، عش الدبابير بشجاعة تحسب له، وبجرأة نظنها مدروسة ونثق أنها مدعومة من منظومة الدولة المصرية كلها، فقدر الوزير عبداللطيف أنه تولى واحدة من أهم الحقائب الوزارية-إن لم تكن الأهم على الإطلاق- لارتباطها بصناعة مستقبل هذا الوطن، حيث هى محور رئيس فى استراتيجية الدولة لبناء الإنسان.
ظل دعم القيادة السياسية لكل من تولى حقيبة التعليم، خلال السنوات العشر الماضية، أمرًا واضحًا، حيث وفرت الدولة للوزراء جل ما طلبوه من إمكانات كلفت ميزانية الدولة الكثير، كما ساندتهم فى قراراتهم بتغيير نظام الامتحانات، مع ما تطلبه هذا من أمور لوجستية كالتابلت وغيره. وأيًا كان حكمنا على تلك المحاولات الإصلاحية التى اجتهد فى القيام بها وزراء سابقون، إلا أننا لا يمكن أن ننكر صدق نوايا القائمين على تنفيذها فى حينه، وسعيهم لإصلاح منظومة أصابها ما أصابها على مدار نحو نصف قرن، إلى أن انتهى بها الحال إلى ما نشهده اليوم من سلبيات تمثلت فى: تسرب التلاميذ، وانتشار ظاهرة الغش الجماعى، وتفشى الدروس الخصوصية، ونقص واضح فى أعداد المدرسين، وعدم الاهتمام بالكتاب المدرسى فى مقابل توزيع كثيف للكتب الخارجية ولمذكرات المدرسين الخصوصيين، وتراجع الدور التربوى للمدرسة، فضلاً عن اختفاء الأنشطة المدرسية، التى كانت تهتم بأصحاب المواهب الفنية والرياضية والأدبية والإعلامية وترعاهم.
دخل الوزير عبداللطيف عش الدبابير بجرأة وبشجاعة وبسرعة، وفتح ملفات مسكوت عنها حتى ظننا أنها أصبحت قدرًا محتومًا. علينا من البداية ألا نعتقد أن المتضررين حال نجاح مساعى الوزير الإصلاحية سيتركونه دون منغصات تسعى لتثبيط همته أو تعطيل خطته، لكنه ولحسن حظه يعمل مع قيادة سياسية واعية وداعمة ومدركة لواقع الملفات وحقائق الأمور على الأرض. ومن ثم اكتسب الوزير الثقة؛ نتيجة دعم القيادة وبسبب مساندة الشعب، الذى يعرف قيمة التعليم ويحن لدور فاعل للمدرسة يحققه استعادة هيبة المدرس، لتكون النتيجة الاطمئنان على مستقبل جيل سيكلف بإدارة الوطن وإعلاء شأنه يومًا ما.
عمليا سعدت جدًا لعودة الاهتمام بلائحة الانضباط المدرسى التى تستهدف عامًا دراسيًا بدون طلاب مشاغبين، وإعلاء شعار التربية قبل التعليم. هناك أيضًا تعليمات صارمة من الوزارة للتوجيه المدرسى بتكثيف المرور على المدارس، والأهم من هذا وذاك هو التشديد على رصد غياب التلاميذ تمهيدًا لاتخاذ قرارات حاسمة مع الطلاب، الذين يهجرون المدارس تلبية لرغبات مدرسى الدروس الخصوصية، الذين تناسوا دورهم الحقيقى، وسعوا لجمع المال ليلاً، ثم جاروا على وقت المدرسة نهارًا؛ ليجدوا «الزبون» فى انتظارهم على مدار الساعة؛ ولأننى مدين للمدرسة ولكل من تشرفت بأنهم درّسوا لى فى سنوات عمرى الأولى فصنعوا موهبتى ودعموها، ثم رعتها الوزارة من خلال مسابقات كانت سببًا فى صقل الموهبة وإبرازها، فأنا أتمنى أن تولى الوزارة اهتمامًا أكبر بالأنشطة المدرسية وبالطابور المدرسى، فضلاً على التغذية المدرسية، وخاصة فى القرى والمناطق الشعبية.
كنت فى غاية السعادة حين التقت قرارات الوزير بمقترح سابق طرحته فى مقال منشور بجريدة «الدستور» الغراء، طالبت فيه بالاستعانة بقدامى المدرسين لسد العجز القائم، وهو ما سمحت به الوزارة بالفعل مع تدبيرها لمقابل مادى معقول يشجع المتقاعدين على العودة للعمل بنشاط، كما تم الانتباه لحديثى التخرج من كليات التربية لأداء سنة الخدمة العامة داخل المدارس للغرض ذاته، والاستعانة بالحاصلين على مؤهل تربوى كمعلمين بالحصة، هذا فضلاً عما تبذله الدولة من جهود فى هذا الشأن بقرار تعيين 30 ألف معلم سنويًا لسد العجز فى أعداد المعلمين.
جاءت قرارات الوزير الخاصة بالمناهج الدراسية قرارات ثورية استبعدت بعض المواد من المجموع الكلى، ودمجت بعضها الآخر، فى حين ركزت الاهتمام على مواد كانت مهمشة رغم أهميتها الشديدة كعلوم عصرية، بالطبع لم يستقبل بعض هذه القرارات بالحماس الشديد مجتمعيًا، لكن التجربة العملية هى المعيار الموضوعى للحُكم المنصف على التجربة سلبًا أو إيجابًا أو تصويبًا.
نحن ندعم بكل تجرد وبكل حماس أيضًا جهود الدولة ووزير التعليم ونتمنى لأولادنا وبناتنا عامًا دراسيًا مختلفًا وموفقًا وقادرًا على استعادة الهيبة لأطراف المنظومة التعليمية، فما أحوج مجتمعنا لهذا. كما أرجو أن يكون الوزير حاسمًا ومعه كل أجهزة الدولة فى الضرب بيد من حديد على من تسول له نفسه، من أصحاب المصالح أو أعداء الوطن السعى لإفشال تلك التجربة الإصلاحية. وفى سبيل تشجيع المنظومة التعليمية ومساندة لها فى جهودها الإصلاحية، أرجو أن نتمهل فى الحكم على التجربة، وأن نمنح مسئولى التعليم الفرصة لإصلاح ما أفسده الدهر بألا نبادر بالتنقيب عن السلبيات بداعى تحقيق السبق الصحفى أو الخبطة الإعلامية، وإنما دورنا أن نقترح الحلول للمشاكل القائمة وأن يكون هدفنا المصلحة الوطنية العليا وليس المنفعة المهنية أو المصلحة الشخصية.