رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهجمات على لبنان.. حرب من نوع آخر

تابعنا خلال اليومين الماضيين هجمات سيبرانية على الشقيقة لبنان انتهت باستشهاد تسعة لبنانيين، فضلًا عن نحو 300 جريح أصيبوا بإصابات متنوعة. مصدر القلق هو حداثة الفكرة واستخدام سلاح إلكترونى جديد يختلف عما اعتدنا رؤيته من أسلحة تقليدية ثقيلة وخفيفة، كما تختلف أيضًا عن موضة العصر فى الهجمات العسكرية وهى الطائرات المُسيرة. والحرب السيبرانية هى ما يمكن تعريفها بأنها وسائل وأساليب القتال المستخدمة فى عمليات الفضاء الإلكترونى بحيث ترقى إلى مستوى النزاع المسلح أو تجرى فى سياقه. هى إذن باختصار عملية إلكترونية سواء هجومية أو دفاعية يتوقع أن تتسبب فى إصابة أو قتل أشخاص أو الإضرار بأعيان أو تدميرها، وقد تكون سببًا لبدء الحرب التقليدية.

 هذا التطور الخطير هو بعض مما حذرت منه الدبلوماسية المصرية منذ اندلاع الحرب فى غزة قبل نحو عام، إذ تكرر نداء مصر للجميع بضرورة وقف التصعيد لما سيستتبعه من اتساع رقعة الصراع فى المنطقة، الأمر الذى يرشحها لتصبح حربًا إقليمية تخوضها عدة قوى ودول فى إقليم الشرق الأوسط، وهو ما سيستدعى بالطبع تدخلات لقوى دولية دعمًا لطرف أو آخر من أطراف ذلك الصراع.

 وعلى هذا سعت الدبلوماسية المصرية- برئاسة وزير الخارجية الأسبق السيد سامح شكرى والحالى السفير بدر عبدالعاطى- منذ اندلاع الأزمة وحتى اليوم لتقريب وجهات النظر بين الطرفين الرئيسيين والسعى لتوقيع هدنة يتبعها إيقاف شامل ودائم لإطلاق النار بهدف حماية المدنيين فى الطرفين لا سيما المواطنين الغزاويين العزل الذين شُردوا ودمرت الحرب منازلهم وقطعت عليهم أبواب الرزق ومنافذ المعونات ومعابر الاتصال بالمجتمع الخارجى. ورغم جولات المفاوضات المرهقة التى توسطت فيها مصر بين الطرفين ومعها الشقيقة قطر وبرعاية أمريكية، إلا أن الصلف الإسرائيلى وإصرار قياداته على المضى فى الحرب الانتقامية حتى النهاية حال دون تحقيق هدف المفاوضين حتى الساعة.

 ثم تبدأ مناوشات فى جبهات أخرى، أظن أنه سيكون لها ما بعدها فى القريب. فمقتل إسماعيل هنية فى طهران، ثم الضربات السيبرانية التى شهدتها لبنان مؤخرًا سيكون لها بالطبع رد من جانب المقاومة اللبنانية مدعومة بقوى إقليمية داعمة لها، كل تلك مؤشرات تَشِى بمزيد من التصعيد فى هذه المنطقة المنكوبة من العالم.

كنت قد تلقيت قبل سنوات دورة فى أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية، وكان من بين ما شد انتباهى خلالها محاضرة ألقاها د. هشام الحلبى عن الحروب السيبرانية. توقع الخبير العسكرى الكبير حينها أن تكــون الحــرب الســيبرانية الســمة الغالبــة- إن لــم تكــن الرئيســة- للحــروب المســتقبلية. وتكمــن خطـورة هـذا الشـكل مـن الحـروب فـى أنه يسـتخدم الإنترنت والشـبكات التى أصبح العالـم يعتمـد عليهـا بصـورة متناميـة.

كان مصطلح الحرب السيبرانية حينها حديثًا نسبيًا، وما كنت أتصور أن يأتى اليوم الذى نشهد فيه بعضًا من وقائع هذه النوعية من الحروب بهذه السرعة وبهذا التأثير الرهيب. الخطير فى الأمر أن هذا النوع من الحروب المسماة بحروب الجيل الرابع لم يعد قاصرًا على الاختراقات والقرصنة ونشر الفيروسات، ولكنه أخذ شكلًا جديدًا أكثر خطورة وله تأثير مباشر على الأرواح، كما أن له قوة تدمير أخطر من تلك التى كانت تخلّفها الحروب التقليدية فيما سبق.

  غير أن الجديد فى تلك الضربة التى أصابت الأشقاء فى لبنان أنها أخذت منحى جديدًا ولم يقتصر على ما كنا نعلمه عن ذلك النوع الحديث من الحروب من حيث كونها ذات سرعة فائقة، أو أنها عالمية الطابع والتأثير. إذ أخذت مما كنا نعرفه بعض الصفات مثل أنها غير محددة المجالات، وساحاتها غير مرئية، ووسائلها خفية. ولكنها علاوة على ما سبق أكدت واحدة من أهم سمات الحروب السيبرانية، وهى أنها حروب تتسم بدرجة كبيرة من التطور السريع والتنافسية الشديدة بين القوى المصنّعة لهذا النوع من الأسلحة.

 وبهذا التطور الذى شهدناه على الأراضى اللبنانية خلال اليومين الماضيين يظهر وجه سيئ آخر لتلك الحرب المشتعلة فى المنطقة، وكأن الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية للنزاعات القائمة- فى العالم كله عامة، وفى إقليمنا المبتلى بالحروب والصراعات خاصة- كان ينقصها هذا التصعيد فى نوعية السلاح المستخدم وقوة تأثيره مع الوضع فى الاعتبار كونه أقل كُلفة على المستخدم من السلاح التقليدى، الأمر الذ أصبح يستدعى تحركًا دوليًا فاعلًا وسريعًا للاستجابة للدعوات العاقلة لإنشاء وكالة دولية للاستخدامات السلمية للقوة السيبرانية.

 المرعب فى الأمر أن تطور الأحداث يأخذنا بسرعة شديدة نحو ما ذكره الحلبى فى مقال له وعرّفه بما يسمى الحرب الهجينة، وهى الحرب التى تمــزج بيــن الحــروب التقليديــة، والحــروب غيــر التقليديــة، والحــروب الســيبرانية، والتخريــب والأنشــطة الإرهابيــة والإجراميــة. وتُســتخدم فيهــا أيضــًا العمليــات النفســية، والتجســس، وحشــد الأقليــات المذهبيــة والعرقيــة، ويتلاشــى
فيهـا التمييـز بيـن الحـرب والسـلام، وتُسـتخدم فيهـا القـوات المسـلحة النظامية والجماعــات المســلحة غيــر النظاميــة.

 خلاصة الأمر، أن الحاجة لصوت العقل أصبحت أكثر إلحاحًا لكبح جماح التصعيد فى الحرب على غزة والتى بدأت تأخذ منحى جديدًا يدعو إلى القلق، والخوف من انزلاق أطراف أخرى تطيل أمد الحرب وتوسع دائرتها وتزيد من تبعاتها، وبالتالى يتضاعف ضحاياها من كل الأطراف والأخطر أنه سيصعب من مهمة وكُلفة إيقافها فى القريب العاجل.