صخب التكنولوجيا.. برامج الذكاء الاصطناعي تحير وتدهش المستخدمين
من بين التقنيات التى أحدثت ضجة كبيرة على مدار السنوات الماضية، فإن أكثرها إثارة للاهتمام هو ما يعرف بـالذكاء الاصطناعي (AI).
من أسباب هذا الصخب حول تلك التكنولوجيا، هى أن برامج الدردشة الآلية الشات بوت ومحلل البيانات أصدرت نتائج أدهشت المستخدمين بالحوارات الشبية بالبشر ومهاراتها فى إجراء الاختبارات، إضافة إلى منتقدى أو حتى مؤيدي هذه التكنولوجيا ممن أثاروا شبح الأجهزة والآلات التى بإمكانها السيطرة على البشر وتهدد وجودهم.
وهكذا يكون الوقت الحالى مثالى لاصدار كتاب "التفوق: الذكاء الاصطناعى، والشات جي بي تي، والسباق الذى سيغير العالم" للصحفية وكاتبة العمود فى بلومبرج بارمي أولسون.
ويتناول الكتاب المناورات الشركاتية وراء تطوير الذكاء الاصطناعي بأصداراته الحالية، والتى تتمثل بالأساس فى المعركة بين جوجل التى تمتلك مركز أبحاث DeepMind وبين ميكروسوفت المستثمر الرئيسي فى شركة OpenAI وهى الشركة الأبرز فى بيع المنتجات التكنولوجية.
تستحق الكاتبة الإشادة بهذا المنجز الصحفي حيث تؤرخ معركة تجارية لا تزال تحدث، بل هى فى الواقع لا تزال فى مهدها.
على الرغم من مثالية توقيت اصدار كتاب" التفوق" إلا أن هناك سؤالا لا بد من طرحه وهو"هل الوقت مبكرا جدا لهذا الطرح؟ وذلك بسبب أننا لا نعرف كيف ستنتهى المعركة، وأيضا لانعرف ما إن كانت النسخ الحالية للذكاء الصناعي ستغير العالم حقًا، كما يؤكد العنوان الفرعى للكتاب، أم أنها ستؤول إلى الزوال؟
لكن إن حدث الاحتمال الأخير، فلن تكون المرة الأولى التى يسير فيها المستثمرون المغامرون الذين أغدقوا على مراكز تطوير الذكاء الاصطناعي مليارات الدولارات، إلى الهاوية معا.
فعلى مدى العقود القليلة الماضية، ظهرت تقنيات جديدة أخرى فى السوق مستغلة موجة من الصخب الإعلامي، كما حدث فى ثورة"الدوت كوم" فى آواخر التسعينيات، وكذلك ثورة العملات المشفرة أو الرقمية التى أظهرت بالفعل مدى تقلبها.
فى أغلب أجزاء الكتاب، تبدو أولسون مفتونة بإمكانيات الذكاء الاصطناعي، حتى أنها كتبت فى المقدمة أنها لم تشهد قط مجالًا "يتحرك بسرعة الذكاء الصناعي في العامين الماضيين فقط". ومع ذلك، وفقًا لسيرتها الذاتية، فهى تكتب فى التكنولوجيا منذ "أكثر من 13 عامًا" وربما لا يُعد هذا كافيا لمنحها المنظور التاريخى اللازم لتقييم الوضع.
إن جوهر كتاب "التفوق" هو السيرة الذاتية المزدوجة بإسلوب" حيوات موازية Parallel Lives*"لرواد الأعمال فى مجال الذكاء الصناعي"ديميس هاسابيس، وسام ألتمان". الأول، مؤسس شركة DeepMind، وهو مصمم ألعاب وبطل شطرنج مولود فى لندن، وكان يحلم ببناء برمجيات "قوية للغاية بحيث يمكنها تحقيق اكتشافات عميقة تتعلق بالعلم وحتى تتعلق بالله"، كما كتبت أولسون. أما الآخر"ألتمان" فقد تربى فى سانت لويس، وأصبح منخرطا فى ثقافة رواد الأعمال فى وادى السيليكون، من خلال علاقته مع Y Combinator وهى شركة تسرّع بدء تشغيل الشركات الناشئة، وفيما بعد سيصير شريكا فيها، ورئيسا لها فى النهاية.
تعتبر أولسون كاتبة سيرة ماهرة جدا. فشخصيتي"هاسابيس وألتمان" كأنهما يقفزان خارج الصفحة وكذلك الحال بالنسبة للعديد من الشخصيات الأخرى المشاركة فى "سباق" الذكاء الاصطناعي، مثل إيلون ماسك، الذى شارك في تأسيس Open AI مع ألتمان، والعديد من الأشخاص الآخرين الذين تظهر سخريتهم فى صفحاتها أكثر وضوحا من صفحات والتر إيزاكسون، كاتب سيرة ماسك المحب.
سيجد القراء المفتونون بمناورات الشركات عالية المخاطر، الكثير مما يبقيهم منبهرين فى كتاب أولسون، عن صعود وهبوط العلاقة بين"جوجل وديب مايند" من ناحية، و"مايكروسوفت وأوبن إيه آي" من ناحية أخرى.
وفي كلتا الحالتين، توترت هذه العلاقات بسبب الصراع بين مهندسى الذكاء الصناعي الذين يركزون على تطوير تقنيات الذكاء الصناعي بشكل آمن، ورغبات الشركات الكبرى فى استغلالها لتحقيق الربح فى أسرع وقت ممكن.
مع ذلك، لم يهتم الكتاب كثيرًا بالتاريخ الطويل للصخب الإعلامي المتعلق بالذكاء الصناعي فلم تتناول"أولسون" بجدية أحتمالية أن يكون ما يروّج له اليوم على أنه"ذكاء صناعي" أقل مما يبدو. حتى أن المصطلح فى حد ذاته عبارة عن جزء من الضجة الإعلامية، فلا يوجد دليل على أن الآلات التى يُروّج لها اليوم"ذكية" بأى معنى عقلاني.
لاحظت ميلاني ميتشل من معهد"سانتا في" قبل بضع سنوات أن "التنبؤات المفرطة الثقة فى الذكاء الصناعي قديمة قدم المجال نفسه". فمنذ خمسينيات القرن الماضى، أكد باحثو الذكاء الصناعي أن التطورات المتسارعة فى قدرات الحوسبة من شأنها سد الفجوات الأخيرة بين الذكاء البشري والذكاء الآلي.
وبعد مرور 7 عقود، لا يزال هو نفس الحلم. إن القدرات الحاسوبية للهواتف الذكية اليوم، ناهيك عن أجهزة الكمبيوتر المكتبية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، لا يمكن للمهندسين فى خمسينيات القرن الماضى تصورها حتى، ومع ذلك فإن هدف الذكاء الآلي الحقيقي لا يزال يتراجع إلى ما هو أبعد من الأفق.
فكل ما منحته لنا هذه القدارت الحاسوبية، هو آلات يمكن تغذيتها بمزيد من البيانات وبالتالى تستطيع لفظها بعبارات تشبه اللغة الإنجليزية أو لغات الأخرى، ولكنها مجرد مجموعة متنوعة عامة، مثل بيانات العلاقات العامة، ومقاطع الأخبار، وبطاقات التهنئة، ومقالات الطلاب. أما بالنسبة للانطباع الذى تعطيه روبوتات الذكاء الصناعي اليوم عن وجود كيان واعى فى الطرف الآخر من المحادثة، التى ينخدع بها حتى الباحثين ذوي الخبرة، فهذا ليس جديدا أيضا.
في 1976 كتب رائد الذكاء الاصطناعي"جوزيف وايزنباوم" مخترع برنامج الدردشة الآلى ELIZA عن إدراكه أن التعامل"مع برنامج كمبيوتر بسيط نسبيا يمكن أن يحفز التفكير الوهمي القوى لدى الأشخاص العاديين"، وحذر مما عُرف ب"التجسيم الطائش للكمبيوتر" أى التعامل معه كنوع من رفيق التفكير، وقد أنتج "نظرة مبسطة.. للذكاء".
الحقيقة هى أن المدخلات التى"تتدرب"عليها منتجات الذكاء الاصطناعي اليوم هى فقط مقتطفات على نطاق واسع من الإنترنت والأعمال المنشورة، وجميعها من انتاج الذكاء البشرى. أما المخرجات عبارة عن تلخيصات خوارزمية لتلك البيانات، وليست إبداعات فريدة للآلات. الذكاء أنتاج بشري بشكل كامل. حتى أن علماء طب الأعصاب عجزوا حتى اليوم عن تحديد جذور الذكاء البشرى، لذا عندما ننسب"الذكاء" إلى جهاز ذكاء صناعي فهذا غباء.
تدرك "أولسون" هذا جيدا، لذا كتبت"إن أحد أقوى سمات الذكاء الصناعي لا تكمن فى ما يمكن أن يفعله، بل فى كيفية وجوده فى الخيال البشري". وربما ينخدع عامة الناس، بتحريض من رواد الأعمال فى مجال الذكاء الصناعي، فيعتقدون أن الروبوت هو "كائن حى جديد".
وكما تقول "أولسون" أيضا، إن الباحثين أنفسهم يدركون أن نماذج اللغات الكبيرة، الأنظمة التي تبدو ذكية تماما،"دُرّبت على الكثير من النصوص بحيث يمكنهم استنتاج احتمالية وجود كلمة أو عبارة واحدة تلو الأخرى هذه هى آلات التكهّن العملاقة، أو كما وصفها بعض الباحثين، “الإكمال التلقائى للمحفزات".
لقد حذر رواد الأعمال فى مجال الذكاء الصناعي، مثل ألتمان وماسك، من أن المنتجات ذاتها التى يسوّقونها قد تهدد الحضارة الإنسانية فى المستقبل، لكن مثل هذه التحذيرات، المستمدة إلى حد كبير من الخيال العلمي، تهدف فى الحقيقة إلى صرف انتباهنا عن التهديدات التجارية الأقرب إلينا كانتهاك حقوق الطبع والنشر الإبداعية الانتهاكات التى يرتكبها مطورى الذكاء الاصطناعي الذين يُدرّبون روبوتات الدردشة على الأعمال المنشورة وميل الروبوتات التى تحيرها بعض الأسئلة، ببساطة إلى أختلاق أجابات فيما يعرف بظاهرة الهلوسة.
تختتم أولسون كتابها "التفوق" بالسؤال الأكثر صوابا عما إذا كان"هاسابيس" و"ألتمان" وجوجل ومايكروسوفت يستحقون "ثقتنا" لأنهم "يبنون مستقبل ذكائنا الصناعي؟" وعلى سبيل الإجابة، تؤكد أن ما أخترعوه بالفعل هو"بعضًا من أكثر التقنيات التحويلية التي رأيناها على الإطلاق".
لكن لم تكن تلك هى المرة الأولى التى يصدر فيها مثل هذا الأدعاء المتعجرف عن الذكاء الصناعي، فى الحقيقة كان هناك العديد من التكنولوجيات والتى سقطت فى نهاية المطاف وتلاشت.