رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جيش يكذب.. لا يمكنه الانتصار

«إذا كان رب البيت بالدُف ضاربًا.. فشيمة أهل البيت كلهم الرقص»، من أشهر أبيات الشعر، التى يُضرب بها المثل فى تأثر سلوك الصغار بسبب سلوك الكبار، قائله سبط ابن التعاويذى، وهو شاعر العراق فى عصره.. وحديثًا، ينطبق على رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، الذى كذّب الجنرال المتقاعد، إسحاق بريك، مزاعمه بشأن أهمية محور فيلادلفيا، جنوبى قطاع غزة، لمنع التهريب المزعوم للأسلحة من خلاله، مستحضرًا لقاءاته المتعددة مع نتنياهو، التى أكد فيها بنفسه رفضه وجود الجيش الإسرائيلى هناك.. وعلى درب نتنياهو، سار المتحدث باسم جيش الاحتلال، دانيال هاجارى، ويتبعه المحللون والمراسلون العسكريون، الذين يمثل معظمهم الناطق بلسان الجيش الإسرائيلى فى قنوات التليفزيون، الإذاعة، الصحف، والمواقع التى يعملون بها، ولا يقولون الحقيقة للجمهور بل يضللونهم؛ هؤلاء أسهموا ويسهمون فى أكبر كارثة فى تاريخ إسرائيل، ومنها ما حدث فى السابع من أكتوبر الماضى.
فى مقابلة أجرتها معه محطة «إف إم» تابعة لصحيفة «معاريف» العبرية، قلل الجنرال الذى يلقب بـ«نبى الغضب الإسرائيلى»، لتنبؤه بهجوم يشنه آلاف المقاتلين الفلسطينيين من غزة على إسرائيل من أهمية محور فيلادلفيا الإستراتيجية فى الحرب الحالية على غزة، ووصف تسويق نتنياهو لأهميته بأنه «أكبر خدعة منذ تأسيس الدولة، لذر الرماد فى عيون الجمهور».. واستحضر بريك الذى كان قائدًا لسلاح المدرعات مقابلاته المتعددة مع نتنياهو إبان هجوم السابع من أكتوبر، للتأكيد أن الموقف الذى يطرحه الآن رئيس الوزراء بخصوص المحور، يختلف تمامًا عن موقفه السابق.
قال بريك: «قلت لرئيس الوزراء، إنه لا توجد طريقة لحل مشكلة الأنفاق التى تمر تحت المحور، دون حفر خندق بطول أربعة عشر كيلومترًا على عمق خمسين مترًا، ثم بناء جدار فقال لى: بريك، هذا غير ممكن.. علاوة على ذلك، فإن المصريين ليسوا مستعدين، ولا أريد أن أفقدهم، ولا أريدهم أن ينهوا السلام ويصبحوا جيشًا مقاتلًا ضدنا.. سألته ماذا عن المصريين؟.. قال إنهم ينكرون وجود أنفاق، وإنهم غير مستعدين للقبول بالوجود الإسرائيلى، حتى لو حصلوا على مساعدات أمريكية».. كما نقل عن نتنياهو، أنه قال له: «ليس لدينا حل لمحور فيلادلفيا.. لا على جانب غزة ولا على الجانب المصرى، بسبب مشاكل الحفر، وعدم استعداد المصريين، ولذلك نحن نفكر فى حفر خندق على بُعد بضعة كيلومترات إلى الشمال من غزة، وليس على محور فيلادلفيا.. إن البديل عن محور فيلادلفيا هو إقامة جدار بين رفح وخان يونس، جنوبى قطاع غزة«.. وختم بريك بالقول: «إنها خدعة ضخمة.. لدى نتنياهو مصلحة واحدة، هى السيطرة على الحكومة واستمرارها.. إنه يحكم على المختطفين بالإعدام، والأسوأ من ذلك، أنه قرر بالفعل أن حرب الاستنزاف الإقليمية ستستمر فترة طويلة، حتى تنهار بلادنا اقتصاديًا، وتتدهور علاقاتها الدولية، ويلحق الضرر بالجيش نفسه».
لم يكتف إسحاق بريك بكشف عورات نتنياهو، بل إنه فى مقال آخر بصحيفة «معاريف»، قال إن «الفرق بين تقارير الجيش والواقع على الأرض يثير القلق»، حيث كذّب رواية جيش الاحتلال بالتمكن من قتل نحو نصف مقاتلى حماس، قائلًا إن من قُتِل منهم أقل من ذلك بكثير، عوضًا عن أن المقاومة عوضتهم بمقاتلين شبان جندتهم خلال العدوان، وأكد أن من يزالون أسرى مفهوم نتنياهو وقادة الجيش، لم يتعلموا شيئًا من الكارثة الرهيبة التى أصابتنا فى السابع من أكتوبر، ويواصلون بث أكاذيب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلى.. قصص الناطق مبنية على توجيهات يتلقاها من قادة كبار فى الجيش الإسرائيلى، ما يحوِّل الإخفاقات الكبرى إلى نجاحات.. «هذه ثقافة الكذب التى نمت إلى أبعاد وحشية لم يشهدها الجيش الإسرائيلى من قبل.. تقارير المراسلين العسكريين يوميًا تعتمد على معلومات من الناطق بلسان الجيش الإسرائيلى والقادة الكبار، يدَّعون فيها مقتل مئات من مقاتلى حماس، ويزعمون إغلاق الأنفاق فى محور فيلادلفيا ونتساريم، وغيرها من الأكاذيب التى لا يسعنى ذكرها هنا».
أتحدث إلى قادة وجنود يقاتلون فى قطاع غزة يواصل بريك ويقولون إنهم بالكاد يواجهون مقاتلى حماس، لأن حماس تقاتل بأسلوب حرب العصابات.. تتعرض قواتنا للعبوات الناسفة، والألغام التى يدخلون إليها دون فحص، والصواريخ المضادة للدبابات التى تطلقها حماس من الأنفاق وتختفى على الفور داخلها.. فى أفضل الأحوال، تتمكن قواتنا من إصابة بعض الأفراد إلى العشرات من مقاتلى حماس.. يقول القادة والجنود أيضًا، إنه ليس لديهم القدرة على إغلاق الأنفاق التى توجد على عمق يصل إلى خمسين مترًا تحت محور فيلادلفيا ونتساريم.. جيش يكذب لا يمكنه الانتصار.
أولئك المراسلون والمحللون العسكريون يسهمون بالفعل فى الكارثة القادمة، التى قد تكون أسوأ بكثير من سابقتها.. يستغل هؤلاء الكتّاب الملكيين حقيقة، أن غالبية الجمهور ليسوا على دراية بأمور الأمن، ويفضلون دفن رءوسهم فى الرمال والعيش فى ظلام تام عما يحدث حولهم.. أوصى بشدة هؤلاء الأشخاص، بالخروج من الواقع الافتراضى الذى يُغذيه المحللون، والمراسلون العسكريون، والناطق بلسان الجيش الإسرائيلى، والاستماع بعناية لما يحدث فعلًا حتى لا يتفاجأوا مرة أخرى.
أسلحة ومقاتلو حماس المسلحون يعبرون تحت قوات الجيش الإسرائيلى الجالسة على محور نتساريم، دون أى مشكلة فى الأنفاق من جنوب القطاع إلى شماله والعكس.. حان الوقت ليقول الجيش الحقيقة، ولا يضلل الناس، ويتوقف عن تحريف الواقع، ليخلق صورة المنتصرين؛ لا يوجد شىء أخطر من ذلك!.. استمرار الحرب التى فقدت هدفها هو كل ما يريده القادة، لضمان بقائهم فترة أطول.. وليس ذلك فقط، بل سيكون ذلك على حساب المزيد من القتلى والجرحى فى صفوفنا، تحرير الرهائن، إعادة بناء الجيش، إعادة بناء العلاقات الدولية وإعادة بناء تماسك المجتمع.
يدَّعى الجيش أن هناك 50% من مقاتلى حماس لا يزالون أحياء فى قطاع غزة.. هذه المعلومة ليست فيها ذرة من الحقيقة، فقد قُتل منهم أقل بكثير من ذلك، لكن الذين قُتلوا تم استبدالهم بشباب صغار احتلوا أماكنهم، ولذلك فإن حماس اليوم قريبة من حجمها الذى كانت عليه قبل الحرب.. جيشنا لا يعترف بأنه لم يحقق الهدف الرئيسى وهو انهيار حماس، وبدلًا من ذلك، يخدع الجمهور بأن الضغط العسكرى القليل سيُمكن الجيش من تحقيق أهدافه.. يجب أن نتذكر أن الرهائن لم يُحرروا بعد، وبعد فترة من الزمن، لن ينجو الرهائن الأحياء فى الأنفاق الخانقة.. 80% من مئات الكيلومترات من الأنفاق لا تزال تحت سيطرة حماس، وعدد مقاتلى حماس يصل إلى عشرات الآلاف.. الكثير منهم لا يزالون مختبئين فى الأنفاق، والعديد الآخرون متنكرين على الأرض.. هذا يشكل ضررًا هائلًا يمكن أن يظهر لسنوات عديدة، حتى إذا توصلت إسرائيل إلى اتفاقيات معهم.
يجب علينا أيضًا أن نفهم جيدًا، أن قتل قادة حماس وحزب الله لا يقربنا من النصر.. لديهم جميعًا بدائل وأحيانًا أكثر تطرفًا.. حتى إذا طلبت حماس وقف إطلاق النار، سنحتفل ونفرح بأن الضغط العسكرى قد هزمها، فلا ينبغى أن نخدع أنفسنا.. حماس لا تزال اليوم مع 80% من أنفاقها، مع عدد من المقاتلين مشابه لما كان لديها قبل الحرب بعد انضمام الشباب إليها، مع الأنفاق التى تعبر من تحت قطاع غزة، ونفس الشىء فى محور نتساريم.. القدرات المحتملة لا تزال قائمة، وحتى إذا قررت حماس أن التهدئة مناسبة لها الآن لبضع سنوات، وحتى لو قررت حماس أن بضع سنوات من الهدوء مناسبة لها الآن، فإنه سيظل يشكل تهديدًا حقيقيًا، لم يتمكن الجيش الإسرائيلى من إسقاطه.. على المديين القصير والطويل، لقد خسرنا الكثير.
فى النهاية، يرى بريك، أنه يجب البدء فى وقف القتال، حيث سيتم تحرير الرهائن بالاتفاق، ويمكننا الافتراض بدرجة كبيرة أن حزب الله سيوقف إطلاق النار أيضًا؛ يجب الإسراع فى إعادة بناء الجيش الذى يفتقر إلى الدبابات، الأجزاء، والذخيرة، وهو مستنزف للغاية؛ يجب إعادة بناء اقتصاد إسرائيل، العلاقات الدولية، وصلابة المجتمع لكى نعود إلى الطريق الصحيح، وعندما نعود أقوياء، ربما نكون قادرين على مواجهة التحديات.. وهنا، علينا الالتفات إلى الشىء الأهم، بأن مصر «على الرغم من أنها دولة فقيرة فى رأيه لديها أقوى جيش فى الشرق الأوسط اليوم، بنحو أربعة آلاف دبابة، ومئات من الطائرات الأكثر تقدمًا، وبحرية من أفضل ما هو موجود.. كما أنهم لسنوات يبنون الطرق السريعة المؤدية إلى سيناء.. وهذا يعنى أنهم باتخاذ قرار بإلغاء معاهدة السلام، يصبحون دولة معادية، وليس لدينا حتى لواء للوقوف فى مواجهتهم».. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.