رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفقر فى القرض

تحدى مواجهة الفقر وتحسين أوضاع الفقراء والمعوزين تحدٍ عالمى، ومهمة القضاء على الفقر وتحسين أوضاع الفقراء لم تتحقق عبر محطات زمنية متتالية صاحبتها إجراءات اقتصادية ومالية واجتماعية كثيرة لم تُثمر عن تحسن ولو جزئيًا فى حالة الفقراء، مع أن المُعلن أن كل الدول تضع ذلك على رأس قائمة أولوياتها، لكنها لم تنجح فى معالجة مشكلة الفقر وتخفيف معاناة الفقراء، الذى تلازمه تحديات تراكمية زاد من تعقيداتها التضخم المتزايد سنويًا، والأزمات المالية المحلية والعالمية.

العالم كله يُلوح بشعار القضاء على الفقر وبقوة فى كافة الاجتماعات الدولية المعنية بالتنمية، لتصدر عنها قرارات وتوصيات مثالية من أجل الوصول إلى عالم خالٍ من الجوع، إلا أن الطموحات لم تتقدم كثيرًا فى هذا الجانب، لأنها تصطدم بواقع الجشع المطبق الذى يُسخر فيها الأغنياء الفقراء بأساليب سخرة تعمق الفقر بين الفقراء وتبسط مزيدًا من الثراء للأغنياء مؤسسات مالية عالمية وأفراد.

بالنظر لمعضلة الفقر فى لمحة سريعة يُلاحظ أنه يعيش أكثر من 1.29 مليار شخص حول العالم على أقل من 1.25 دولار يوميًا، بما يعادل 22% من سكان العالم النامى ونصف أولئك يعيشون فى شرق آسيا، وأضحى للوطن العربى نصيبه الأكبر من اتساع دائرة الفقر والبطالة بعد تعميق الأزمات فى المنطقة العربية، واهتزاز بعض دولها التى كانت مستقرة اقتصاديًا واجتماعيًا.  

أعلن البنك الدولى فى خطته منذ 2010 عن أنه وضع هدفًا يرمى لخفض نسبة الفقر من 21%  إلى 3% بحلول عام 2030 من خلال استفادة الفقراء من النمو القوى والرخاء المتزايد فى الدول النامية، والعمل على استغلال الدول الفقيرة التى تتمتع بموارد طبيعية وبشرية لهذه الإمكانات بأقصى قدر لتعظيم القيمة المضافة من هذه الموارد، وما حدث خلال الخمسة عشر عامًا الماضية كان زيادة مخيفة فى الفقر وأعداد الفقراء.

وكأن المهمة قد فشلت أو لم تكن صادقة أصلًا، فحماية العالم من الفقر توشك أن توصف بالمستحيلة، فالبنك الدولى، وصندوق النقد الدولى لهما توجهات أدركت الشعوب أن إجراءات التقشف تلك وشروط منح القروض للدول، ومنها رفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية ومشتقات الوقود والطاقة وتحويلها فى هيئة إعانات لفئات مستحقة لم تبلغ الفقراء، ففُقد الأمان الاجتماعى، ودُفع بالناس إلى سلوكيات مرفوضة، وأعمال ممقوتة أضرارها على المجتمعات تتزايد يومًا بعد يوم ولا يلوح فى الأفق كبحها.

فالفقر المدقع، والمجاعات المؤلمة تتسع حلقاتها وتتعقد دوائرها. فالطبقة الوسطى التى تُعد رمانة التوازن فى المجتمعات، قد انحدرت وبقوة نحو الطبقة الفقيرة، وأضحى الكل فقراء، وتعلقت طبقة غنية محدودة منفصلة فى برجها عن المجتمع الذى شقاؤه تعاظم لجورها، وبعدم اكتراث من الهيئات والمنظمات.

فأروقة الأمم المتحدة تعج طرحًا ونقاشًا بقصص الفقر ومشاهد معاناة الفقراء، وردهات المؤتمرات والندوات واللقاءات الدولية تُصدر النتائج والتوصيات التى لعلها تكافح الفقر وتُوقف تمدده، ولكن لم تُثمر مشروعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عن معالجة حقيقية لهذه الظاهرة، ولم تُحدث استجابة دولية فاعلة على مشهد الفقر المتفاقم من جراء سوء إدارة الموارد، واتساع النزاعات والحروب والتطاحن الدولى على المصالح الذى لم يسحق إلا الفقراء والبؤساء، ومحيطهم الأوسع أصبح فى المنطقة العربية وضفافها المشبعة باللجوء فى مخيمات لا خدمات فيها ولا مرافق.          

اقتصاديات الفقر تثير تأملات فى كيفية شبع الفقراء لأنهم لا يأكلون ما يكفيهم، وقد يقدمون شراء بعض الكماليات على الحصول على الطعام، وبالتالى زاد بؤسهم، فلا صحة جيدة ولا طاقة فاعلة، ولا فرصة عمل مناسبة، ليظل الفقير فقيرًا وكأن الفقر فى الغالب يُورث.

قد لا يُفهم الفقر تمامًا مهما تعالت الأصوات لكبحه، إلا بالنزول إلى واقع الفقراء من أجل إعادة النظر فى كيفية مكافحة الفقر فى العالم، من خلال التعايش مع الفقراء فى محاولة جادة لفهم المشكلات المحددة التى يبطّنها الفقر لاكتشاف المنهج الملائم لمعالجة هذه المشكلة المتجذرة عالميًا.

تحليل جانب العرض والطلب الذى يمكن أن يُلبى توقعات الفقراء المتمثلة فى مدى توافر فرص وظيفية جيدة يمكن لهم الحصول عليها بمراعاة سوق العمل لقدراتهم وإمكاناتهم.. والتى تُشكّل الجزئية المجهولة التى ينبغى على صانعى السياسات ومتخذى القرارات اكتشافها ومراعاتها، ومراجعة مخاطر القروض التراكمية التى تدفع الفقراء باتجاه اتخاذ قرارات ذات عوائد اقتصادية تكاد تكون معدومة، الأمر الذى من شأنه دفعهم للازدياد فقرًا، فى ظل التضخم العالمى الذى ارتفعت فيه الأسعار إلى مستويات عالية.. إذ إن تسهيل عمليات الإقراض، وتوفير فرص القروض للفقراء بأسعار فائدة فى نظرهم مفروضة عليهم لا بديل عنها وليس لهم فيها خيار، زاد من بشاعة التحديات التى تواجههم.. إضافة إلى التحدى الأصلى المتمثل فى الفقر نفسه.                  

الجهود الرامية إلى إيجاد عالم خالٍ من الفقر أبعد من التحليل العقلى لمفهوم الفقر، والرفض الأخلاقى الشائع للفقر، بل والموروث المتوارث بين الأجيال بإرث الفقر.. إذ لا بد من تغيير النظرة جذريًا لفهم خلفية الفقراء ومكونات الفقر بالتركيز على استراتيجيات وسياسات وخطط وبرامج وآليات تقوم على أساس القراءة الناقدة والتحليل المتأمل لواقع الفقراء، وما يعيشونه ويواجهونه فى واقع حياتهم المعيشية، والنمط الاجتماعى الذى يخضعون له، وقياس مكونات الموارد المتاحة لهم كمًا ونوعًا وآليات كسب وتوظيف وإنفاق تلك الموارد، والمواءمة بين المتحصل عليه منها واحتياجاتهم ومتطلباتهم الفعلية، والذى بدوره يتطلب توجيه السياسات نحو الفقراء قبل الفقر.            

مشكلة الفقر فى غاية التعقيد، فهو متغلغل فى ثنايا القواعد الاجتماعية، وفى واقع الأنساق الاجتماعية، وبين طيات النظام الاجتماعى، وفى قوى الضبط الاجتماعى.. ويقع ضمن منظومة القيم والعادات والتعاملات والمصالح والهياكل الاقتصادية والمالية والتجارية والاستثمارية السائدة فى المجتمع.. وبالتالى من الصعوبة مما كان معالجته خارج هذه المنظومة.

وفى هذا السياق يلحظ المتأمل أن ما يُسوق له من نوايا حسنة وإرادات وأخلاق وتضامن وتقدم تقنى ونمو اقتصادى وفائض فى الثروات لم تكن كما أُريد منها، بل ما أظهر المفهوم السلبى لها، فقد عمّقت الفقر فى محيط الفقراء، ووسّعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء.. لأن معالجة الفقر تقتضى الوقوف على العوامل الأكثر إحداثًا له، والمتمترسة فى الفكر والثقافة وهياكل المجتمع وشبكة العلاقات والمصالح فى الداخل والخارج.. ما يجعل البيانات الموثوقة المعبرة عن خط الفقر الحقيقى بمستوى الدخل أو الإنفاق، وواقع الادخار، وحق الإنسان فى الحياة الكريمة، ومنطلقات التنمية المستدامة، الأسلوب الأمضى فى مجابهته فى إطار البحث عن مقياس أكثر دقة وموضوعية لقياس حالة الفقر بالاتفاق على تعريف له، واستخدام أساليب واختبارات إحصائية ملائمة، وبناء مؤشرات تعكس حقيقة الفقر وعوامل شيوعه.

أسس الإسلام نظرية اقتصادية رائدة لمواجهة تحدى الجوع والعوز تؤكد أن الفقر ليس مسألة قهرية على الناس عليهم الخضوع لها بل ممكن تخطيه وقهر عوامله، بوسائل يعرفها كل الناس. لقد أصّل الرسول عليه الصلاة والسلام لمنهجية رائدة فى معالجة الفقر بتبنى صحيفة الوفاق والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فى المدينة المنورة، والتى تضمنت برامج اقتصادية، وقواعد مالية، وأسسًا اجتماعية، ومفاهيم نفسية لمعالجة الفقر وقهر التخلف فى نواة الدولة  بالمشاركة فيما بين المهاجرين والأنصار فى عناصر إنتاج رئيسة هي: المال، والعمل، والإدارة مع احتفاظ الأنصار بحق الملكية فى الأرض، لترك المهاجرين أموالهم فى مكة المكرمة، ليرسم بذلك خارطة اقتصادية راسخة، كما رسمها نبى الله يوسف عليه السلام لتدبير الموارد الطبيعية، ومواجهة الأزمات الاقتصادية فى مصر.

وفى هذا السياق نادى الخليفة أبوبكر الصديق رضى الله عنه بمقاتلة مانعى الزكاة، حتى وإن كان شيئًا بسيطًا كعقال البعير، للمحافظة على أدنى الموارد الاقتصادية ودعمها.. وأوقف الخليفة عمر بن الخطاب الفاروق رضى الله عنه حد السرقة عندما تعاظم الجوع فى عام الرمادة، ونادى الخليفة على بن أبى طالب رضى الله عنه بالأخذ بكل السبل لمقاومة الفقر والخروج منه بمقولته الشهيرة «لو كان الفقر رجلًا لقتلته»..  ليؤسس لنظرية «موت الفقر» فى عدم الاستسلام له، وأن الخروج من دائرة الكسل إلى ميدان العمل يُخرج من الفقر.

توحى مواجهة الفقر بالموقف القطعى الرافض لوجود الفقر أصلًا، فى حين أن مسلّمة وجود الفقر لا جدل فيها، ولكن المستقر يكمن فى المقبول بدرجة من درجاته يمكن العيش معها بكرامة.. ويعكس ذلك الخلط الرائج بين الفقر، وبين بساطة الحياة والابتعاد عن سلوك البذخ والإسراف.. ذلك أن الفقر يكمن فى مكونات عناصر الإنتاج من أرض، وعمل، ورأسمال، وإدارة، وآليات التبادل بين هذه المكونات والعلاقات التى تتحكم بها منظومة همّشت الفقراء وحيّدتهم عن المشاركة الفاعلة فى رسم سياسات وبرامج التنمية، وتُرك تصميم معيشتهم فى أُطر تُصيغ استراتيجيات أنماط المعيشة المفروضة عليهم قسرًا ضمن نسق تنموى يتجاهل الفقراء كثيرًا ويجامل الأقوياء الأغنياء على حساب الفقراء الضعفاء وحقوقهم، والمديونيات التى عليهم والمطالبات المالية والحقوقية التى ضدهم خير شاهد على ذلك.

إن تردى الأوضاع المعيشية وتعاظم الفقر وارتفاع حدة المجاعات بين الفقراء أفرزت اختلالات باتت على نطاق واسع خاصة فى المنطقة العربية التى أضحت ميدانًا للصراع الدولى الذى عمق الفقر وزاد أعداد الفقراء نتاجًا لذلك، وللمعايير غير العادلة التى تؤطرها ضوابط وشروط قروض المؤسسات المالية الدولية التى تفرضها على الدول، وتنسحب على الأدنى، ليستمر الضغط على الفقراء،  وتتسع دائرة الفقر فى الدول النامية وغير المعافاة من الأزمات.  

فهل من مراجعة دولية لسلوك مؤسسات الإقراض المالية العالمية ليدخل واقع الفقر ومعاناة الدول فى التصدى له ضمن سلوك إقراضها؟.. أم سيظل الفقراء ضحية قرض!.

رئيس مركز المعرفة العربية للاستشارات