رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شهيدٌ.. بخنجر مسموم فى الصومال (2)

كان الصومال فى بداية خمسينيات القرن الماضى مشمولًا بوصاية الأمم المتحدة.. وفى عام 1953 كان كمال الدين صلاح يقوم بعمله كقنصل لمصر فى مرسيليا بفرنسا، عندما تلقى قرار الحكومة المصرية بنقله إلى الصومال.. ولم يكن هناك تمثيل سياسى لمصر فى تلك البلاد، لكن مجلس الوصاية فى الأمم المتحدة كان قد شكل لجنة ثلاثية من مصر وكولومبيا والفلبين، مهمتها أن تُقيم فى الصومال الموضوع تحت الوصاية، وأن تراقب عملية نقله من مرحلة الوصاية إلى مرحلة الاستقلال.
بدأ صلاح حياته فى السلك الدبلوماسى بالقدس سنة 1936، وكانت الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإنجليزى الإسرائيلى فى أعلى مراحلها، ثم نُقل إلى اليابان عندما كانت الحرب اليابانية- الصينية هى مشكلة العالم، ومن اليابان ذهب إلى بيروت، إذ كانت الحرب العالمية ناشبة، وجيوش حكومة فيتشى تحتل لبنان.. وجيوش إنجلترا وفرنسا الحرة تتهيأ لغزوها، والمجاهدون العرب يفرون من قبضة الإنجليز فى العراق وفلسطين وإيران إلى بيروت، التى كادت تغلق عليهم كالمصيدة، فدفعته سليقته ووطنيته إلى مساعدة هؤلاء اللاجئين، حتى طلب لورد كيليرن من الحكومة المصرية أن تسحبه من لبنان بسبب نشاطه، فأعادته إلى القاهرة حتى أشرفت الحرب على نهايتها.
صدر قرار بنقل كمال الدين إلى سان فرانسيسكو، وفجأة وقع خبر اغتيال رئيس الورزاء المصرى، أحمد باشا ماهر، واعتقل فى هذا الحادث أحد أقارب صلاح، وهو الأستاذ فتحى رضوان.. ذهب صلاح يسأل عن قريبه فى السجن، فأُلقى القبض عليه من باب الاشتباه، وفتشوا بيته ووضعوه فى السجن يومًا وليلة، قبل أن تتبين حكومة النقراشى حماقة ما فعلت فأطلقوا سراحه.. وصدر قرار بإلغاء سفر صلاح إلى سان فرانسيسكو، ونقل بدلًا منها إلى اليونان، ليشهد هناك الحرب الأهلية بين الحكومة والشيوعيين، ومن اليونان نقل إلى العاصمة الأردنية، عمان، ليشارك فى الحرب الأولى بين العرب وإسرائيل، ثم إلى تشيكوسلوفاكيا ليحضر فترة الانقلاب الشيوعى هناك، ثم إلى دمشق؛ ليشهد أصعب أيام حكم العقيد أديب الشيشكلى، واصطدامه بالشعب السورى، ثم يأخذ هدنة فى العاصمة السويدية، ستوكهولم، فتقوم ثورة 23 يوليو فى مصر، وينقل إلى مرسيليا عام 1953، وكانت مرسيليا فى ذلك الوقت مركزًا هامًا من مراكز نشاط الثوار الجزائريين، وكان الفرنسيون يرمقون كل مصرى، رسمى أو غير رسمى، بنظرة شزراء، خشية أن يكون ممن يقدمون مساعدات للثوار، وكان لا بد أن يصطدم بهم كمال الدين صلاح لهذا السبب أكثر من مرة.
مر هذا الشريط الهائل، الذى يبلغ طوله ثمانية عشر عامًا، برأس صلاح فى دقائق قليلة، وهو يبتسم قائلًا، إنه أغلب الظن سيحيا فى الصومال حياة هادئة، فهذا البلد الصغير الفقير لم يعرف عنه العالم أنه مثير للمشاكل من أى نوع، وهو موضوع تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات تنتهى فى عام 1960، بعدها سيصبح مستقلًا، والدولة التى تتولى الإدارة فى الصومال تحت إشراف الأمم المتحدة حتى يحصل على استقلاله، هى إيطاليا، وهى دولة استعمارية تثير المتاعب، منذ صُفيت إمبراطوريتها الإفريقية فى الحرب الثانية.. ثم إنه ليس ذاهبًا هذه المرة بوصفه ممثلًا لمصر، إنه يحمل صفة أخرى، هى أنه ممثل للأمم المتحدة، وهى الهيئة النبيلة المستقلة المحايدة المترفعة عن الأغراض «فى ذلك الوقت»، لا يهمها إلا أن يتهيأ هذا الشعب للاستقلال فى الموعد المطلوب.. «نعم ستكون حياة هادئة»!.
وقبل أن يتتبع أحمد بهاء الدين، فى كتابة «مؤامرة فى إفريقيا»، رحلة السفير المصرى، كمال الدين صلاح، فى مقديشو، منذ وصوله إليها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، أفرد مساحة من كتابه لتعريف نظام الوصاية الذى استحدثته الأمم المتحدة، لتهيئة الدول المحتلة فى ذلك الوقت للاستقلال.. يقول بهاء الدين، إنه قبل الحرب العالمية الثانية، كان هناك نظام الانتداب الذى لم يكن فى الواقع أكثر من اسم مهذب للاستعمار.. كانت سوريا ولبنان مثلًا تحت الانتداب الفرنسى، وكانت فلسطين تحت الانتداب الإنجليزى، ومع ذلك، كان الشعب العربى فى تلك البلاد فى ثورات متصلة ضد إنجلترا وفرنسا، بوصفهما دولتين استعماريتين، فلما نشبت الحرب العالمية الثانية، ومن خلال أحداثها ووعودها، بدا أن الشعوب المستعمرة سوف يبزغ عليها بعد الحرب فجر جديد.. وفى مؤتمر يالطا، اجتمع روزفلت وتشرشل وستالين، واتفقوا على تنظيم العالم وهيئة الأمم بعد الحرب، على أن تتشاور الدول الخمس التى ستكون لها مقاعد دائمة فى مجلس الأمن، فى شأن مسألة الوصاية الإقليمية، قبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة.
عندما انعقد مؤتمر سان فرانسيسكو لوضع ميثاق الأمم المتحدة، وُلِد مبدأ عالمى جديد، هو أن الشعوب المستعمرة والمتخلفة مسئولية من مسئوليات المجتمع الدولى كله، وأن العلاقة بين الدولة المستعمرة والدولة الخاضعة للاستعمار ليست علاقة خاصة، إنما هى علاقة عامة، من حق الأمم المتحدة ومن واجبها كممثلة للمجتمع الدولى أن تتدخل فيها، واتُفق على تقسيم البلاد غير المستقلة إلى نوعين، الأول هو المستعمرات بوجه عام، والثانى هو المستعمرات التى كانت خاضعة لنظام الانتداب قبل الحرب، والمستعمرات التى كانت تستعمرها «دول الأعداء»، أى ألمانيا وإيطاليا واليابان.. هذا النوع الثانى هو الذى تَقَرر وضعه تحت الوصاية.. وللأمم المتحدة، وفقًا لهذا النظام، أن تُشرف على إدارة الأقليم المشمول بالوصاية.. ومن أجل ذلك، نص ميثاقها على تكوين جهاز خاص من أجهزتها يتفرغ لهذه المهمة، ذلك هو مجلس الوصاية، ومهمته أن يراقب إدارة الدولة الوصية للبلد المشمول بالوصاية، وأن يتلقى سنويًا تقريرًا من هذه الإدارة، وأن يفحص العرائض التى قد تُقدم إليه من البلد المشمول، وأن يرسل بعثات دورية تزور هذه الإقاليم.
والوصاية على أى بلد لها هدف واضح ومحدد لا يحتمل التحايل، هو: إعداد الشعب الموضوع تحت الوصاية للاستقلال الكامل، طبقًا لمعاهدة محددة، ويتشكل مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة من الدول التى تقوم بالوصاية على الأقاليم، وهى إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وأستراليا ونيوزيلندا وأمريكا، والدول ذات المقاعد الخمس الدائمة فى مجلس الأمن، وهى إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا والصين، وعدد آخر من الدول، يكفى لكى يصبح عدد الدول الأعضاء التى لا تقوم بالوصاية، مساويًا للدول الأعضاء التى تقوم بالوصاية.. وتطبيقًا لذلك، أصبح أعضاء أول مجلس وصاية: إنجلترا وفرنسا وأمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وبلجيكا وروسيا والصين.. ولما كانت ستة من هذه الدول تقوم بالوصاية على بعض الأقاليم، ودولتان فقط، هما روسيا والصين، لا تقومان بأى وصاية، فقد وجب تعيين أربع دول أخرى أعضاء فى المجلس، حتى يكون عدد كل من الدول الوصية والدول غير الوصية ستة، فإذا تغير عدد الدول الوصية تغير بالتالى عدد الدول غير الوصية، احتفاظًا بالمساواة العددية.. والسر فى هذا التشكيل بالغ التعقيد، فإن الدول الوصية وهى الدول القوية، حرصت على الاحتفاظ لنفسها بنصف عدد الأعضاء، حتى لا تصدر القرارات ضد مصلحتها، ومعنى ذلك أن الدولة الوصية لا تُحب أن تُسلم سريعًا بضرورة إنهاء وصايتها، أو الإسراع بإعداد الإقليم التابع لوصايتها للاستقلال، وهنا إذًا مجال كبير للمناورات!.
كان هذا أول إنذار للمسافر إلى الصومال، السفير كمال الدين صلاح، الذى يبدو أن مهمته لن تكون سهلة، كما تصور وهو يعد نفسه إلى السفر لهذا الجزء الهادئ من العالم!
وصل كمال الدين صلاح إلى مقديشو، ولم تمض أسابيع حتى وقع فى غرام هذا الشعب الفقير، كما وقع هذا الشعب الصغير الفقير فى حب الدبلوماسى المصرى.. ومصدر هذا الحب المتبادل، أن صلاح وجد نفسه محاطًا بشعب مُسلم، ولغته المفضلة العربية ولهجاته المحلية فيها كثير من الكلمات المصرية القديمة، أما الصوماليون فقد وجدوا فى الوافد المصرى أنه إفريقى مثلهم.. نعم إنه يمثل الأمم المتحدة، لكنه من دينهم ومن جنسهم ومن قارتهم، فهم يطمئنون إليه ويفتحون له قلوبهم ويعتبرونه واحدًا منهم، يقاسمهم حياتهم ومستقبلهم ومشاكلهم، ويجدون فى البلد الذى جاء منهـ مصر ـ البلد الإفريقى الذى استطاع أن يتحرر ويستقل، ويصبح دولة مرموقة متحضرة، فهو صورة معبرة للأمل المنتظر أمام الإفريقيين جميعًا.
وينقل بهاء الدين فى كتابه، إحدى رسائل صلاح الأولى التى كتبها إلى أصدقائه وذويه من مقديشو، شارحًا فيها ظروف البلد الذى انتقل إليه، «قمت بجولة فى أنحاء الصومال دامت أسبوعين، قطعت خلالها ثلاثة آلاف ميل بسيارة جيب، اجتزت خلالها أراضى صحراوية وغابات استوائية ومناطق زراعية.. لقد اختلطت خلال هذه الرحلة بالأهالى وتحدثت إليهم، وصليت معهم فى المساجد، وخطبت فيهم شارحًا وضع بلادهم، والدور الذى يجب أن يقوموا به ليحققوا استقلالهم، والدور الذى تقوم به الأمم المتحدة لمساعدتهم.. الناس هنا يعيشون على الفطرة، كيوم هبط سيدنا آدم على الأرض، يأكلون مما يحصلون عليه من صيد الغابة، شبه عرايا، ليس على أبدانهم سوى ما يستر العورة، يبيتون فى العراء، وقد يكون لسلطان القبيلة وزعمائها أكواخ من القش وفروع الشجر، حتى العاصمة نفسها، نجد أن أحياء أبناء البلد فيها فقيرة كئيبة، ورغم أن هناك مساحات واسعة من الأراضى الصالحة للزراعة، ألا أن أغلبية الناس منصرفون عن زراعتها، فهم لا يعرفون طرق الزارعة، ويعجزون عن مجاراة الإيطاليين الذى يزرعون المناطق القريبة من النهرين بآلات حديثة.. ورغم كل ما سبق، نجد هؤلاء الناس يتقدمون فى فهمهم السياسى بشكل عجيب، ففى أقصى الغابات نجد واحدًا يملك «راديو بطارية» يسمع منه ومعه الآخرون نشرات الأخبار، لقد وجدتهم يعرفون أخبار مصر معرفة دقيقة، ويتتبعون معاهدة الجلاء، والحلف العراقى التركى، وسفر جمال عبدالناصر إلى مؤتمر باندونج.. إنهم يتعلقون بمصر تعلقًا شديدًا وينتظرون منها أن تساعدهم.
انتهت رسالة كمال الدين صلاح، التى شرح فيها أوضاع البلد الإفريقى العربى الذى وصل إليه.. وفى المقال التالى، نعرض للمشاكل التى واجهت صلاح فى الصومال، وكيف حاول أن يقيم قناة اتصال بين القاهرة ومقديشو، وكيف أصر ممثلو الاستعمار القديم على إفشال مهمته ومهمة مجلس الوصاية!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.