فى وداع عايدة علام.. «سانتا كلوز» المسرح المصرى
فارقتنا دون توقع منا الدكتورة عايدة علام، مصممة الديكور والأزياء، أستاذة الديكور بقسم المسرح بكلية الآداب جامعة حلوان، التى علّمت أجيالًا بعد أجيال.. كان فراقها صعبًا على قلوب تعلقت بها، وكان عزاؤها مظاهرة حب وامتنان من زملائها وتلاميذها.. عايدة علام هى زوجة الناقد الكبير الراحل الدكتور حسن عطية.. لم ينجبا أطفالًا إلا أن تلاميذهما كانوا أبناءهما الحقيقيين.. لقد تركا أثرًا معرفيًا وإنسانيًا محفورًا فى ذاكرة المسرح المصرى.. شاهدًا على معنى العطاء.. وأن ما تبذره فى القلوب والعقول لا يتلاشى ولا يفنى، واليوم تكتب لنا المخرجة والدراماتورج الكبير عبير على عن صديقتها وأستاذتها ورفيقة المهنة الدكتورة عايدة علام.
إلى عايدة علام
اسمحى لى أن أحكى معك وعنك لا مجال للرثاء عن الحاضرين دومًا.
متى وأين كانت أول مرة؟
هناك محلقة فى فضاء الإدارة العامة للمسرح بالثقافة الجماهيرية خريف ٨٤ بذيل حصان وحقيبة سفر، كنت قد سمعت كثيرًا عن المهندسة الجوالة التى تسافر لعمل ديكورات لمسرحيات الثقافة الجماهيرية بأقاليم مصر المختلفة، وكانت تراودنى الكثير من التوقعات حول تجربتها، كنت أقول لنفسى: «بالطبع شايفة الويل، ست وبتعمل ديكور مسرح فى محافظات مصر مع مخرجين رجالة، وبكل تأكيد أهلها رفضوا سفرها للمحافظات لوحدها والمبيت برة البيت أيامًا، والمخرجين طبعًا كانوا بيتعاملوا مع ملاحظاتها بحساسية وتحفظ- إزاى يسمع وجهة نظر ست؟؟ ووووووووو».
تقاطعنى عايدة بابتسامتها المتفائلة بعد سنوات من هذا المشهد فى لقاء بمنزلها: لا لا لا محصلش خالص أنا اشتغلت ديكور فى أغلب محافظات مصر، أخذت جوائز وكان كل اللى بيحصل لى زى ما بيحصل لأى مهندس ديكور راجل يعنى يقولوا: «اتهدى بقى إنتى هتاخدى كل الشغل، أو أن مخرج مثلًا يصر على وجهة نظره»، ثم تستطرد ضاحكة: «إييه مش مصدقة؟».
كنت صغيرة حديثة التخرج ودائمًا ما كنت أصطدم بتلك الأفكار التى كانت تؤرقنى، ولم أكن حينئذ قد تعرفت عن قرب على الثنائى المدهش «حسن عطية - عايدة علام».
الرحلة إحنا
هذا الثنائى المختلف فى كل شىء الذى قالت عنه عايدة علام: «حكايتى مع المسرح متضفرة مع حكايتى مع د. حسن- مش لازم أبقى قاومت قهر المجتمع والرجال لوحدى علشان أحقق حلمى- أنا وحسن عملنا كل ده سوا بداية من إننا مجبناش النيش وطقم الكاسات والصالون المدهب لما اتجوزنا، بنينا بيتنا سوا حتة حتة (وتضحك ضحكتها المبهجة الطيبة مكملة) مع صراخ حاد من العائلة واستهجان، عمره ما كان تصفيق حاد أبدًا، جبنا مكتبة كبييييرة مالية حيطان بيتنا، نجاحنا صنيعتنا سوا مش أنا ولا هو، لا إحنا».
هكذا هما ثنائى استثنائى
يرتحلان معًا فى رحلة مختلفة بدءًا من زواج غير تقليدى، ثم تأتى بعثة دكتور حسن لإسبانيا، فيعرض عليها ما بين أن تكمل دراسة علم النفس بالقاهرة، أو أن تسافر معه إلى إسبانيا يقتسمان معًا الحياة على المخصص المالى لطالب البعثة «حسن عطية»، كما يتقاسمان رحلة تعلم الإسبانية والدراسة ومغامرات الدنيا الجديدة.
اختارت رفقة الحبيب لاكتشاف عالم جديد، وتركت علم النفس الذى بدأت دراسته بعد توظيفها بالإدارة العامة للمسرح بالثقافة الجماهيرية، «عايدة علام» تلك الروح المفعمة بالحياة تكره السكون والثبات، فهى فى حالة دأب وحركة دائمة، تحكى عايدة عن تلك التجربة قائلة: «لما لقيت نفسى بأروح الشغل أمضى حضور وانصراف وأقعد تحت الشجرة. كان لازم أجرى وأعمل حاجة، مش هينفع أقف، وكانت أقرب حاجة لى شفت إنها دراسة علم النفس».
ثم تركت علم النفس والديكور وراءها وطارت وراء حبها وشغفها للعالم الجديد.
وتقول: «رجعنا معانا الدكتوراه- سوا- بس شقتنا استولى عليها صاحب البيت وباع الكتب والمكتبة واللوحات بالكيلو».
هكذا حكت لى عندما قابلتها بعد عودتها من إسبانيا.
وأخذ الثنائى بيتًا جديدًا بجوار أكاديمية الفنون، تقول لى «عايدة» وهى تتجول فى منزلها عندما كنت فى زيارة لها لتعزيتها فى أستاذنا الكبير دكتور حسن عطية: «بدأنا من جديد هنا جنب طلابنا، إحنا صحيح ماعندناش أولاد بس شوفى هنا فى الركن ده دايمًا فيه حد من طلابنا بيذاكر وبيطلع من المكتبة المراجع اللى محتاجها، وفى الركن ده حد يتناقش معنا فى عرض مسرحى أو فيلم، وهناك (مشيرة للسفرة) ملمومين بناكل كلنا سوا- ياه كتير من قصص الحب اتولدت هنا، أنا هنا فى حضن دنيتنا أنا وحسن، (وتكمل ناظرة إلى صورة دكتور حسن) وفى وسط الرحلة جت محطة حسن نزل من القطر بس هنتقابل أكيد تانى».
وكانت قد قررت أن تقيم صالونًا ثقافيًا فى بيتهما المفعم بالدفء وشغف البحث.
لست أدرى، فكلما أردت الحديث عن صديقتى عايدة أستاذة الديكور بكلية الآداب قسم المسرح ومصممة الديكور للعديد من الأعمال المسرحية الناجحة، تستدرجنى روح عايدة فأجدنى أكتب عنهما معًا كما أرادت دائمًا أن تعلن «الرحلة نحن». كان بيتهما ومكتبتها هما دائمًا ملجأ الباحثين وطلبة الدراما والنقد الباحثين عن المشورة والمراجع، وأيضًا الدفء واللمة، والابتسامة المرحبة دائمًا من الرقيقة عايدة علام، لذا لم يكن من الصدفة عندما حاولنا بمهرجان إيزيس عمل فيلم قصير عن هذه السيدة المبدعة الأم والزوجة المحبة «عايدة علام» أن يستقر رأينا أن نحاكيها بصورة تمثال الإلهة «موت» أم الآلهة وزوجة آمون حارسة الإله حورس، التى احتضنت فى بيتها على مدار عمرها المسرحيين، وأعطت الحركة المسرحية وأصدقاءها وطلابها الدعم العلمى والدفء الإنسانى.
كانت دائمًا محلقة فى فضاءات المسارح وقاعات الندوات والمحاضرات بحضور رقيق، مرسلة ابتسامتها وقطع البنبون على الجميع، فيضىء المكان حولنا بفيض من النور والأمان وطعم السكر فى أفواهنا. إلى لقاء «سانتا كلوز»، فى كل أروقة الإبداع دائمًا، أنت موجودة محلقة هناك، إلى لقاء عايدة علام.