رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حاملات الطائرات التى حرَّضت تل أبيب!


بعد عدة اغتيالات نفذتها دولة الاحتلال، وفى مقدمتها العملية التى استهدفت إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، ووقعت داخل الأراضى الإيرانية، واغتيال الرجل الثانى فى حزب الله، فؤاد شكر، فى الضاحية الجنوبية لبيروت، تصاعدت المخاوف من الرد الإيرانى ضد إسرائيل، وارتفعت مؤشرات الخطورة التى قد تهدد بنشوب حرب إقليمية يصعب التكهن بمآلاتها!.. وفى مثل هذه الأوضاع والأجواء المشحونة بالتوقعات، يبدو من الطبيعى أن تندفع واشنطن نحو هدفها الاستراتيجى، وهو تأمين إسرائيل، عبر الدفع بأقصى قواها نحو المنطقة، فى محاولة للسيطرة على إيقاع التصعيدات غير مأمونة العواقب، مع أنه، ومن الناحية الاستراتيجية، فإن تركيز الجيش الأمريكى على الشرق الأوسط، يمثل مخاطرة بترك البحرية الأمريكية فى غرب المحيط الهادى دون أى حاملات طائرات، وهى منطقة بها أكبر وأخطر خصوم الولايات المتحدة، الصين.
وفق هذه المعطيات، صرَّح مسئولون أمريكيون بأن الجيش يُعيد نشر معداته ويحرك آليات دفاعية إضافية نحو الشرق الأوسط، للتصدى لأى هجوم محتمل على إسرائيل من الجانب الإيرانى.. وتنفيذًا لتلك التحركات، أعلن الجيش الأمريكى، وصول حاملة الطائرات «يو إس إس أبراهام لينكولن»، والمدمرات المرافقة لها إلى الشرق الأوسط، بعد أن أمر وزير الدفاع، لويد أوستن، بتسريع انتقال هذه المجموعة البحرية الضاربة إلى المنطقة، وهى المجهزة بمقاتلات «إف-35 سي» و«إف/إيه-18 بلوك 3»، وتعتبر السفينة الرئيسية فى مجموعة حاملات الطائرات الضاربة، ويرافقها أسطول المدمرات «ديسرون 21»، وجناح حامل الطائرات «سى فى دبليو التاسع»، ومن المفترض أن تحل «لينكولن» محل حاملة الطائرات الموجودة حاليًا فى المنطقة «يو إس إس ثيودور روزفلت».
فى مطلع شهر أغسطس الحالى، أرسلت الولايات المتحدة اثنتى عشرة سفينة حربية مع حاملة الطائرات العملاقة «يو إس إس ثيودور روزفلت» إلى الشرق الأوسط، التى حلت بدلًا من حاملة الطائرات «دوايت دى أيزنهاور»، التى عادت إلى الولايات المتحدة مؤخرًا، بعد فترة خدمة طويلة، بدأت منذ يناير الماضى، وسبقتها حاملة الطائرات «يو إس إس جيرالد آر فورد».. وقد تموضعت حاملة الطائرات الأمريكية «ثيودور روزفلت» فى الخليج العربى، مع ست مدمرات أمريكية.. وفى شرق البحر الأبيض المتوسط، وجدت ثلاث مدمرات برمائية، وهى حاملات الطائرات «يو إس إس واسب»، و«يو إس إس أوك هيل»، و«يو إس إس نيويورك»، بالإضافة إلى مدمرتين، هما «يو إس إس بولكلى»، و«يو إس إس روزفلت».
ويبدو أن هذه التحركات تتخطى السياسات الدفاعية إلى الخطط الهجومية، والضربات الإجهاضية التى يمكن أن تنخرط فيها الولايات المتحدة ضد إيران، أو أى قوى إقليمية أخرى قد تمثل تهديدًا لإسرائيل، بحسب رؤية الولايات المتحدة وتقديرها، دون أى حساب للمآلات الخطرة التى تنزلق إليها المنطقة، وكذلك دون وضع نهاية للإبادة الواقعة فى غزة، باعتبارها بؤرة اشتعال الإقليم.. وحركت وزارة الدفاع الأمريكية سربًا من الطائرات المقاتلة إلى الشرق الأوسط، كما سترسل المزيد من الطرادات والمدمرات إلى المنطقة بصورة أكبر، فى إعادة انتشار شبه كامل، لأهم القطع البحرية وأحدث المقاتلات وأنظمة الدفاع الجوى.. ومع ذلك، فليست تلك القطع الجبارة فى مأمن من الخسائر، وليست محصنة ضد الضربات والقصف الصاروخى، فى حال انزلاق المنطقة نحو الخيار الأسوأ.
هذا الدعم اللا محدود من واشنطن لتل أبيب، لم يعمد إلى تهدئة إسرائيل، وحثها على الانصياع إلى ما تقول واشنطن أنه محاولة للتهدئة ووقف العدوان على غزة، بل إنه أغرى إسرائيل على توسيع نطاق عملياتها العسكرية فى الأراضى المحتلة، والبدء فى تطبيق سيناريو ما حدث فى قطاع غزة على الضفة الغربية، وكأننا فى مواجهة حرب سرمدية، لا نهاية لها، ولا حدود لنتائجها، إلا ما شاع من قبل، عن رغبة دفينة فى نفس رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بتهجير أهالى قطاع غزة إلى سيناء وأهالى الضفة الغربية إلى الأردن، والاستحواذ على كامل الأراضى الفلسطينية، خالصة للدولة العبرية وحدها.
وإذا كان صحيحًا ما قاله وزير الخارجية الإسرائيلى، يسرائيل كاتس، بأن إيران تقف وراء التصعيد والعمليات فى الضفة الغربية، وإن «العملية العسكرية فيها جاءت لإفشال مخطط طهران، إنشاء جبهة شرقية ضد إسرائيل فى الضفة، على غرار نموذج غزة ولبنان، من خلال تمويل وتسليح الشبان وتهريب الأسلحة المتطورة من الأردن»؛ فإن إسرائيل تكون قد انجرت بالكامل إلى الملعب الإيرانى.. وبدلًا من الإفلات من المكائد، عمقت ووسعت حرب الاستنزاف التى علقت بها فى وحل غزة ولبنان إلى جبهة أخرى إضافية.. لكن كاتس، الذى لا يوصف بأنه من القادة الأذكياء فى تل أبيب، كشف عن نوايا أخرى إضافية، عندما قال، «يجب أن نعمل على إجلاء مؤقت للسكان من الضفة الغربية.. علينا أن نتعامل مع التهديد فى الضفة تمامًا كما نتعامل مع البنية التحتية فى غزة.. هذه حرب ضد كل الصعاب».. وعلى طريقة رئيسه، بنيامين نتنياهو، قال، «علينا أن ننتصر فيها»!.
الحقيقة أن إسرائيل تدير حربها على الضفة الغربية، قبل أن تقول إنه «المخطط الإيرانى» بكثير.. ففى أواخر مارس 2022، فى زمن حكومة يائير لبيد، قصيرة العمر، بدأت تنفيذ حملة اعتقالات ضخمة، أطلقت عليها اسم «كاسر الأمواج»، بدعوى «منع تنفيذ عمليات تفجير داخل إسرائيل».. والمنطق وراء الحملة هو أن الحكومة كانت ذات تركيبة غريبة، من أقصى اليمين حتى الحركة الإسلامية.. وقد بثت نوعًا من الضعف؛ لأنها قررت عن سبق تعمد وإصرار، الامتناع عن الدخول فى مفاوضات لتحريك المسار السياسى.. وهذا الموقف، الذى أغضب كل الفلسطينيين، فُسر لدى التنظيمات الفلسطينية المسلحة، على أنه فرصة لاستئناف العمليات المسلحة داخل المدن الإسرائيلية الكبرى.. وفى هذه الأثناء سقطت حكومة لبيد، وجرت انتخابات فاز فيها اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو، التى ضمت أحزابًا تخطط لتصفية القضية الفلسطينية.. والخطة التى تسمى «خطة الحسم»، ووقع عليها وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، تضع أربع مراحل: إحداث فوضى فى الضفة الغربية، ثم إسقاط السلطة الفلسطينية، ثم تصفية الحركة القومية الفلسطينية، ثم المرحلة الرابعة، ترحيل الفلسطينيين.
حملة الاعتقالات تمت طيلة سنتين ونصف السنة، وما زالت مستمرة بلا توقف حتى اليوم.. ففى كل ليلة تنتشر قوات الجيش والمخابرات فى بلدات عدة فى آن واحد، كل مرة لاعتقال «مجموعة مطلوبين».. وترافقت الحملة بعمليات بطش وقمع شرسة.. وقال الجيش يومها، «حملة ضد أوكار إرهابية فلسطينية فى مناطق يهودا والسامرة، فى أعقاب سلسلة من الاعتداءات والعمليات التخريبية، نفذها مخربون فلسطينيون، فى كل من أورشليم العاصمة ومدن إسرائيلية أخرى: بنى براك، خضيرا، بئر السبع، تل أبيب، أريئيل وإلعاد، مسفرة عن مقتل وإصابة مدنيين إسرائيليين.. خلال الحملة تقوم قوات الجيش والأجهزة الأمنية بعمليات تفتيش واعتقالات ضد مطلوبين أمنيين، فى مناطق يهودا والسامرة، والذين ينتمون إلى منظمات إرهابية متطرفة».
فى البداية، جرى التركيز على نشطاء حماس والجهاد.. وعندما تبين أن الشباب الفلسطينى، وعلى عكس قياداته التى تجنح للانقسام، يقيم وحدة صف مدهشة فى الميدان من جميع الفصائل، أصبحت العمليات تجابه بمقاومة شديدة وظهرت تنظيمات فلسطينية تعرف باسم «عرين الأسود» و«كتائب طولكرم» و«كتائب جبع»، وغيرها من الكتائب الوحدوية، التى شملت أيضًا عددًا من الفتحاويين، وحتى بعض الضباط العاملين فى أجهزة الأمن الفلسطينية.. وفى السابع من أكتوبر الماضى، اتخذت هذه الحملة طابعًا تصعيديًا كبيرًا.. فقد قررت القيادة العسكرية الإسرائيلية منع الفلسطينيين من فتح جبهة حرب فى الضفة.. واستغلت الحرب على غزة لتباشر استخدام وسائل لم تستخدمها فى السابق، مثل غارات الطائرات المقاتلة من طراز إف- 16، التى قصفت بلدات ومخيمات لاجئين عدة، من أريحا جنوبًا حتى جنين شمالًا، وخلالها دخلت الدبابات والجرافات الضخمة إلى مخيمات اللاجئين، بشكل خاص جنين، وبلاطة، ونور شمس والعوجا، ولم يعد الاعتقال هو الهدف، بل الاغتيال.. وهدمت مئات البيوت وحطمت معظم البنى التحتية.
وبحسب إحصائيات الجيش، نفذت خلال الحرب إحدى عشرة عملية مسلحة فى إسرائيل والمستوطنات، وتم إجهاض مائة وإحدى عشرة عملية أخرى قبل وقوعها.. وبعد اغتيال إسماعيل هنية والعملية الأخيرة فى تل أبيب، أعلنت حماس استئناف العمليات الاستشهادية فى المدن الإسرائيلية.. فقررت إسرائيل أن تأخذ هذه التهديدات بجدية، وتبادر إلى هجمة إضافية هذه الأيام.. وفى حين يعد الفلسطينيون هذه الهجمة، عملية تصعيد تستهدف زرع الفوضى فى الضفة الغربية تنفيذًا لخطة سموتريتش، يقول الجيش إن هذه الهجمة تقصد منع التدهور حتى لا تنفذ عمليات يستغلها اليمين المتطرف لإحداث الفوضى.
لكن، فى الحالتين، عمليات الجيش تخدم سموتريتش وخطته؛ لأن الشعب الفلسطينى يتعرض لموجة تنكيل إضافية تفاقم الوضع وتدهوره أكثر مما هو متدهور، وهذه العمليات هى التى تنشئ جيشًا من المناوئين لإسرائيل، يتمتع بقدرات عالية أكثر من الأجيال السابقة من تنظيمات المقاومة.. فسياسة القيادة العسكرية، المبنية على القوة، وإذا لم تنفع فمزيد من القوة، فشلت ليس فقط فى إسرائيل، بل فى كل مكان آخر فى العالم.
وإذا كانت القيادة العسكرية الإسرائيلية تريد استعراض عضلاتها أمام حكومة اليمين، التى تهاجم هذه القيادة وتتهمها بالفشل والإخفاق، والجبن والتخلى عن عقيدة القتال والإقدام والصدام، فإن ما تفعله فى الضفة سيزيد من الاستخفاف بها فى الحكومة.. فالمتطرفون فى إسرائيل لا يشبعون، وكلما يضرب الجيش أكثر سيطالبونه بالمزيد.. وفى الحساب النهائى تبقى النتيجة فى غير صالحها، فهى التى تقود جيشًا من ثلاثة أرباع مليون جندى، وتمتلك أحدث الأسلحة الفتاكة، تحارب أحد عشر شهرًا، ضد تنظيم صغير مثل حماس، ولا تسمح لها الحكومة بإنهاء هذه الحرب.. والآن تدخل وحلًا جديدًا، مهما كانت نتيجته، لن تكون مشرفة، ولن يكون فيه شىء من حماقة البحث عن انتصار.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.