لا كلام نافع ولا اعتذار شافع!
أقسم بكل الأديان وغيرها، إننى فى حالة ذهول شديد منذ سمعت من يسخر من العلوم الإنسانية خاصة آداب اللغات وعلوم الجغرافيا والتاريخ والفلسفة، ولا أجد وصفًا لنعت قائل هذا الهراء الشديد الذى تجاوز كل الحدود والتصورات. هذا الكلام الفارغ يعنى أننا فى وضع كارثى وانهيار فكرى وثقافى.. ومن حقى أن أتصور وأتخيل لو سمع هذا الكلام كبار مثقفينا ومفكرينا العظماء الأحياء منهم والأموات، فمن على قيد الحياة راح فى غيبوبة كمن تم ضربه على رأسه، ومن لقى ربه بات يتقلب فى مرقده.
وأتخيل أيضًا أن قائل هذه السخرية يؤكد أننا لسنا فى حاجة إلى المزيد من طه حسين وسهير القلماوى ومحمد مندور وشوقى ضيف وجابر عصفور وعائشة عبدالرحمن، بنت الشاطئ، ولطيفة الزيات، ومحمود أمين العالم، ولويس عوض وزكى نجيب محمود، وعبدالعظيم أنيس وعبدالمحسن طه بدر، ونصر حامد أبوزيد وسيد البحراوى، وصبحى عبدالحكيم وجمال حمدان، وغيرهم الكثير والكثير ممن تزخر بهم مصر. ولو سمع هؤلاء قبل مماتهم هذه السخافة، إن صح التعبير، لأصابتهم سكتة قلبية فى التو والحال.
هل هذا الكلام يعنى أننا فى مصر استكفينا من كل هؤلاء العلماء الأفذاذ.. أم أن هذا الرأى صدر عن شخص لا يعيش الواقع المصرى أو أنه لم يقرأ التاريخ أو أو أو أو أو؟! هناك الكثير من الأسئلة التى يجب طرحها فى هذا الإطار ولكن حياء المرء يمنعه من ذكرها ولا يجوز بأى حال من الأحوال أن ألتمس العذر لقائلها!.. من يسخر من دراسة العلوم الإنسانية لا يعرف قيمة نهضة الأمة وتقدمها، لأن العلوم الطبيعية وعلوم العمران تحتاج لفكر الإنسانيات ليقويها ويشد من أزرها، لا أن نلغيها.. وبالتالى تفقد الأمة هويتها الفكرية والثقافية وتكون أكذوبة للدنيا بأسرها.
التاريخ حافل بهذه القمم، الذين تخرجوا فى أقسام التاريخ والجغرافيا والفلسفة أو فى كل أقسام العلوم الإنسانية بصفة عامة. والسخرية منها أو إلغاؤها أمر بشع وخطير ويعنى القضاء على تراث مهم وبالغ الأهمية فى الفكر والأدب والنقد والفلسفة والتاريخ والجغرافيا.. ثم إن أى اعتذار بعد ذلك لا يجوز على الإطلاق، فالاعتذار يعنى الاعتراف بالخطأ، وهناك أخطاء لا تغتفر لأن مرتكبيها هم المفروض فيهم التنوير للشعب. وتلك كارثة خطيرة يجب على الإطلاق ألا يقع فيها من يشارك فى أى تنوير للمجتمع.
وقد يرى البعض أن طريقة العرض قد خانته عندما يتحدث عن ضرورة مواكبة التكنولوجيا والتطور الحضارى الجديد، والبحث عن فرص العمل، ولا بد أن تتهيأ الأمة وشبابها لهذا الظرف الجديد المهم وتوفير فرص العمل وخلافه.. والرد بسيط جدًا، نحن مع ذلك، ونشجعه ونطالب به ولا بد أن يبحث الشباب عن فرص عمل تتناسب مع الواقع الجديد فى ظل عالم التكنولوجيا المتقدمة وخلافه، ما يدعونا إلى المزيد من تنوير المجتمع فى هذا الإطار ولا يعنى ذلك أبدًا السخرية أو إلغاء هذه العلوم. والغريب فى الأمر، كانت هناك مفاجأة أخطر وهى السخرية من دراسة اللغات الأجنبية فى الجامعات، فى حين أن دراستها مهمة جدًا ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن يتقن الشاب اللغة دون دراسة آدابها وينقد فكرها.. لذلك فإن محمد على باشا الذى كان حريصًا جدًا على نهضة الأمة كان من ضمن الاختصاصات الرئيسية التى اهتم بها فى البعثات دراسة اللغات إلى جانب العلوم الحديثة، وكان من نتاج ذلك «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» لصاحبه العملاق رفاعة رافع الطهطاوى. وهل يخفى علينا التبحر الذى قام به طه حسين فى الآداب اللاتينية ودراسة المقارنات بين الأدب اليونانى والآداب العربية؟
كل هذه الأمور تجعلنا نسأل سؤالًا آخر: هل هذه السخافات تأثر بها جموع المصريين؟.. لا أحد على الإطلاق، حتى البسطاء وغير المثقفين وغير المتعلمين رفضوا ذلك لشعورهم بأن إلغاء دراسة التاريخ والجغرافيا إهدار لتاريخ الأمة. وهو لا يعنى فقط الحاضر وإنما الماضى والحاضر والمستقبل، ومن هذا الأساس لا يجوز قبول أى اعتذار فى هذا الأمر. لكن يبقى السؤال المهم أيضًا: هل يثق أحد بعد ذلك فى أى طرح من هذا النوع الخبيث؟!.