رماد قاتل.. "أسبستوس" الأنقاض.. كارثة متجددة تهدد بتفشى الأمراض السرطانية بقطاع غزة (تحقيق)
أرواح الآلاف من الشهداء زهقت جراء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، وأصيب الآلاف أيضا، أما الكارئة الكبرى التى تمثل مصير مؤلم ينتظر عدد غير محدود من الفلسطينيين فى إصابتهم بمرض السرطان، نتيجة غبار الأنقاض المُحمل بمادة "الأسبستوس" الخطرة التي حذّرت منها الأمم المتحدة مؤكدة تواجدها في أنقاض مبانى غزة، إذ أكدت الأمم المتحدة على وجود 800 ألف طن من مادة "الأسبستوس" المميته في حُطام غزة محذرة من خطورة تلك المادة البالغة.
عرّفت منظمة الصحة العالمية مصطلح الأسبستوس بأنه يطلق على مجموعة معادن ليفية تتكوّن طبيعيًا ولها فائدة تجارية حاليًا، نظرًا لمقاومتها غير العادية لقوة الشدّ، ورداءة توصيلها للحرارة، ومقاومتها النسبية لهجمات المواد الكيميائية عليها.
وتُستخدم "الأسبستوس" لأغراض العزل داخل المباني وفي تشكيلة مكونات عدد من المنتجات، مثل ألواح التسقيف، وأنابيب الإمداد بالمياه، بطانيات إطفاء الحرائق، ومواد الحشو البلاستيكية، والعبوات الطبية، قوابض السيارات وبطانات مكابح السيارات وحشياتها.
رئيس الكرسي العلمي للبصمة الكربونية بالألكسو: تؤثر على الحمض النووي وتسبب السرطان
السفير مصطفى الشربيني رئيس الكرسي العلمي للبصمة الكربونية والاستدامة بالألكسو بجامعة الدول العربية، وسفير ميثاق المناخ الأوروبي في مصر، أكد أنه من المتوقع مواجهة غزة بعد الحرب الإسرائيلية كارثة بيئية وصحية لعقود من الزمن موضحًا أن أحد جوانب هذه الكارثة تتمثل في تواجد مادة “الأسبستوس” بها، تلك المادة التي صنعت منها الكثير من المباني في المدينة، وقد أصبحت تلك المباني حاليًا حطامًا وأنقاضًا.
أوضح أن الأسبستوس تسبب مخاطر صحية كبيرة على السكان إذ تستقر أليافها المستنشقة في الرئتين وحولهما، وذلك بعد أن تحولت المباني إلى أنقاض متتسببة في حدوث ندبات والتهابات ومشاكل حادة في الجهاز التنفسي.
وتابع: مخاطر التعرض للأسبستوس تحدث عندما تنتقل ألياف تلك المادة المجهرية من منتجات مواد البناء والمواد الصناعية نتيجة للمباني المهدمة إلى الهواء، مشيرُا إلى أنه يمكن أن يبقى غبار "الأسبستوس" في الهواء لساعات قبل أن يستقر، مما يعرض أي شخص قريب لخطر استنشاق أو تناول المعدن السام.
ولفت إلى أن التعرض للأسبستوس، خاصة استنشاق أليافها المحمولة جوًا يمكن أن يسبب مشاكل صحية خطيرة مثل ورم الظهارة المتوسطة، وكذلك داء الأسبستوس والعديد من أنواع السرطانات، موضحًا أن عادة ما تكون للأمراض المرتبطة بالأسبستوس فترة تتراوح من 20 إلى 60 عامًا، وتشمل الأعراض الشائعة ضيق التنفس والسعال وألم في الصدر.
وأضاف رئيس الكرسي العلمي للبصمة الكربونية أنه يمكن أن يؤدي تراكم هذه المادة إلى عواقب تهدد الحياة، بما في ذلك تلف الحمض النووي، مشيرًا إلى أنه لايوجد مستوى آمن من التعرض للأسبستوس، موضحًا أن معظم المشاكل تحدث بعد سنوات من التعرض المتكرر، مؤكدا على أنه وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن حوالي 10 بالمائة من الأنقاض في رفح وخانيونس عبارة عن مادة الأسبستوس، إضافة لكمية صغيرة في منطقة الزيتون بمدينة غزة.
حسب المنظمة تمثّل جميع أشكال الأسبستوس مواد مسرطنة بالنسبة للبشر، وقد تتسبّب في الإصابة بورم المتوسطة وسرطان الرئة وسرطاني الحنجرة والمبيض. ويؤدي التعرّض لتلك المادة أيضًا إلى الإصابة بأمراض أخرى، مثل داء الأسبستوس (تليّف الرئتين) ولويحات أغشية الرئتين وحالات التثخّن والانصباب.
أستاذ علم كيمياء فيزيائية: الكارثةفي عدم تحللها
الكارثة تتمثل في جزئيات مادة "الأسبستوس" حسب الدكتورة فكيهة أستاذ علم الكيمياء الفيزيائية بكلية العلوم جامعة القاهرة؛ والفائزة بجائزة الامتياز العلمي "كوامي ناكروما" كأفضل العلماء السيدات لعام ٢٠٢٠ فى إفريقيا، مشيرة إلى أن الأسبستوس مادة لا تتحلل أبدًا ولكنها فقط تتفتت وتبقى على جزيئاتها الضارة والتي تتخذ شكل "الإبرة"، ومن شأنها بذلك اختراق الجهاز التنفسي للإنسان، لتستقر في الرئتين مُسببة الأورام السرطانية والمياه على الرئة،
وأوضحت الدكتورة فكيهة أن هذه المادة قد تخترق الجلد، وتعطل عمل الدورة الدموية وتسبب تسممًا بها، مما ينتج عنه الكثير من الأضرار الخطيرة، ولفتت إلى أن مادة الأسبستوس كانت تستخدم في مصر، في المباني ومعامل الكيمياء والأفران التي يدخل بها العناصر الكيميائية، وذلك نظرًا لتحمل هذه المادة الشديد لدرجات الحرارة، كما كانت تستخدم أيضًا في مواسير المياه، وذلك حتى تم منعها بشكل كامل نتيجة للتأكد من أضرارها على العمال والمواطنين الذين يتعرضون لها وإصابتهم بالأورام السرطانية.
وأشارت أستاذ علم الكيمياء الفيزيائية بكلية العلوم جامعة القاهرة إلى أن خطورة هذه المادة تتمثل عندما تصبح ضمن غبار وذلك نتيجة تطايرها مثلما هو الحال مع أنقاض غزة، موضحة أنه يمكن لها بذلك أن تتطاير على مسافات بعيدة مما تسبب معه إصابات خطيرة لعدد أكبر من الأشخاص.
قدرت الأمم المتحدة حجم الركام والأنقاض الذي يتعين إزالته في قطاع غزة بحوالي 37 مليون طن أي نحو 300 كيلوغرام من الركام في المتر المربع في قطاع غزة.
المستشار الإعلامي لوزارة البيئة: بعض الدول تستخدمها
وتحدث عبدالجواد أبوكب المستشار الإعلامي لوزارة البيئة أن مادة الأسبستوس تم إيقاف استخدامها رسميًا عام 1970، إلا أن بعض الدول استمرت في استخدامها على الرغم من الرقابة العالمية على استخدامها في الصناعات المختلفة.
وأكد أن التعرّض لتلك المادة يؤدي إلى الإصابة بداء الأسبستوس (تليّف الرئتين) ولويحات أغشية الرئتين وحالات التثخّن والانصباب، لافتًا إلى إن استخدام الأسبستوس أدي في عام 2004 وحده علي سبيل المثال إلى وفاة 107000 شخص بسرطان الرئة وداء الاسبست.
وتابع: خطورة الأسبستوس تكمن في نوع المواد المعدنية الموجودة فيها، مشيرًا إلى أن تأثيراتها الصحية تعتمد على المدة الزمنية التي يتعرض لها الإنسان، كذلك عدد الألياف وطولها ومتانتها.
وأضاف أنه قد تبين وجود علاقة وثيقة بين المدة الزمنية للتعرض لألياف الأسبستوس وشدة التعرض وبين التأثيرات السلبية على صحة الإنسان، إذ تظهر أعراض المرض بعد التعرض المزمن لألياف الأسبستوس الذي قد يصل إلى أكثر من 20 سنة، أما بالنسبة للتعرض الحاد فلا توجد دراسات تظهر تأثيراته على الإنسان.
ولفت أبوكب إلى أن هناك وسيلتين يمكن من خلالهما التعرض لألياف الأسبستوس، الأولي التعرض عن طريق الهواء، أو الاستنشاق خاصة في أماكن العمل حيث ينطلق الأسبستوس إلى الجو على هيئة أتربة وغبار غير عضوي معدني يتكون من سليكات المنجنيز ومركبات الحديد والرصاص، والتي يطلق عليها الأتربة الرئوية.
أما الوسيلة الثانية فهي التعرض لألياف الأسبستوس عن طريق شرب مياه ملوثة بالمادة سواء كانت عبر المواسير المستخدمة لضخ المياه أو تلوث مصدر المياه الأساسي بالمادة.
وأضاف المستشار الإعلامي لوزارة البيئة أن الأسبستوس تشكل مجموعة طبيعية من المعادن المتكونة من بللورات متميعة من أملاح السليكا لا تُرى بالعين المجردة، ويمكن رؤيتها بالمجهر الضوئي، كما أنها تمتاز بكونها سهلة الانتشار في الهواء الجوي.
أما فيما يتعلق بالمأساة في غزة أوضح أن الكارثة تكمن في وجود ٨٠٠ ألف طن من مخلفات المباني ملوثة بمادة الأسبستوس بنسب تصل إلي نحو ٣٠٪ وهو ما يظهر أن هذه المادة الخطرة كانت قاسما رئيسيًا في عمليات البناء، مضيفًا أن هناك نحو 380،000 طن متري من الحطام الذي تم جمعه من المستوطنات الإسرائيلية السابقة، ولم تقم قوات الاحتلال بالتخلص منه، وهو ما يمثل كارثة إضافية أخرى على أهل غزة.
وتابع: هناك اهتمام من منظمة الصحة العالمية بالتنويه على خطر هذه المادة، والتأكيد الدائم على أن أنواع الاسبستوس تسبب سرطان الرئة والحنجرة، وتؤدي إلى تليف الرئتين في حال التعرض لاستنشاقها.
حسب منظمة الصحة العالمية نحو 125 مليون نسمة في جميع أنحاء العالم يتعرضون للأسبستوس في أماكن عملهم، وأكثر من 107 آلاف شخص يقضون سنويا نتيجة التعرض لتلك المادة.
استشاري أمراض صدرية: ارتفاع كبير فى مصابي الأسبستوس في غزة
وعن داء تغبر الرئة أو داء "الأسبستوس" وانتشاره في غزة بسبب العدوان الإسرائيلي، والذي يواجه في الغالب عمال الأنقاض والمحيطين بها أكد الدكتور محمد حسن الطراونة استشاري الأمراض الصدرية بمستشفيات الأردن وفلسطين في حديثه "للدستور" أن هذه المادة كانت السبب الرئيسي في انتشار سرطانات الرئة وما يعرف بالإصابة ب"تغبر الرئة" أو داء الأسبستوس بالآراضي الفلسطينية، موضحًا أن ذلك بسبب العدوان المستمر من قبل الاحتلال الإسرائيلي في السنوات السابقة والذي نتج عنه تحطم المباني التي تحتوي على هذه المادة، ثم رفعها على هيئة أنقاض بعد ذلك ينتج عنها غبار محمل بتلك المادة السّامة.
وتوقع زيادة عدد المصابين بمرض الأسبست بكميات هائلة نتيجة العدوان الأخير باعتباره الأعنف والأشرس والأكبر ضررًا، موضحًا أن تأثير هذه المادة يظهر بعد عدة سنوات على الشخص الذي تعرض لها.
وتسبب مادة الأسبستوس حسب استشاري الأمراض الصدرية الإصابة بسرطان يعرف بسرطان "الميزوثوليوما" وهو أحد السرطانات الخطيرة المُميتة والتي تصيب الأغشية البلورية للرئة، لافتًا إلى أن التعرض لتلك المادة يؤدي إلى حدوث تراكمات على أغشية الحجاب الحاجز، وكذلك أغشية الرئة لذا ينتج عنها تليف في الرئة، وهذا التليف بدوره يسبب فشلًا في الجهاز التنفسي.
وتابع الطراونة أن الأشخاص الذين يصيبون بداء الأسبستوس لا يمكنهم بعد ذلك الحياة إلا بالحصول على جرعات الأوكسجين كما لا يمكنهم القيام بأعمالهم اليومية بشكل طبيعي على الإطلاق، بل قد يحتاجون في الكثير من الأحيان في حال كانت حالتهم متقدمة إلى زراعة للرئة فضلًا إلى الإصابة بالسرطان.
أكثر من 107000 نسمة يقضون نحبهم كل عام بسبب سرطان الرئة وورم المتوسطة وداء مادة الأسبستوس نتيجة التعرّض لتلك المادة في أماكن عملهم.
رئيس مركز علاج الأورام فى غزة:نسبة حدوث السرطان 96 حالة لكل مائة ألف
وأكد الدكتور خالد ثابت استشارى أول ورئيس مركز علاج الأورام فى غزة في حديثه "للدستور" أن واقع مرضى السرطان فى فلسطين سيء جدًا منذ سنوات طويلة وجاءت هذه الحرب المدمرة لتزيد هذا الواقع صعوبة وتعقيدًا.
وأوضح أن نسبة حدوث السرطان فى غزة 96 حالة لكل مائة ألف، أى تقريبًا 2000 حالة جديدة كل سنة فى مساحة جغرافية ضيقة وإكتظاظ سكانى كبير، وتابع أن نسبة حدوث سرطان الرئة تبلغ حوالى 8% من مجمل كل الحالات، لافتًا إلى أنه يشكل الورم الثانى بعد سرطان القولون فى الرجال وذلك بنسبة 12%.
وقال رئيس مركز علاج الأورام فى غزة إن هناك العديد من المسببات لسرطان القولون المعروفة مثل التدخين ولكن فى قطاع غزة يضاف إليها مسببًا أخر خطير، وهو مخلفات الحروب من المواد الكيماوية والمشعة، موضحًا أن معظم القنابل التى تستخدم في الحرب على غزة تحتوى على مواد مشعة مثل اليورانيوم والبلوتونيوم المستنفذ بالإضافة إلى مخلفات الإنفجارات مثل غبار الأسمنت والأسبستوس وهى تبقى عالقة فى الهواء أو تسقط إلى التربة وتتغلغل حتى تصل إلى مخزون المياة الجوفية فى غزة.
ولفت إلى أن تقرير البعثات الأوروبية بعد حرب 2009 على غزة يفيد بوجود عشرات الأطنان من المواد المشعة من مخلفات القصف فى غزة، كما لوحظ فى السنوات الأخيرة زيادة مضطردة فى عدد حالات السرطان التى يتم تشخيصها سنويآ فى قطاع غزة، وتابع أن معظم حالات سرطان الرئة التى يتم تشخيصها سنويآ تكون فى مراحل متقدمة وفرص العلاج تكون محدودة جدًا وغالبًا لاتبقى على قيد الحياة لفترة طويلة.
تقف مادة الأسبستوس وراء ثلث الوفيات الناجمة عن أنواع السرطان التي تحدث جرّاء التعرّض لعوامل مسرطنة في مكان العمل.
المستشار الإعلامي لوزارة البيئة: شروط غير متوفرة للتعامل معها
يرى عبدالجواد أبوكب المستشار الإعلامي لوزارة البيئة المصرية أنه لتفادي بعضًا من أخطار مادة "الأسبستوس" وقت رفع أنقاض غزة أوالتعامل معها، هناك شروط يأمل اتباعها لكي لاتزيد مأساة هذا البلد مآس.
أوضح أن بين هذه الشروط ضرورة إخلاء السكان وإبعادهم بمسافة كافية قبل بدء عملية إزالة المخلفات لافتًا إلى أن مادة "الأسبستوس" تندرج تحت بند المخلفات الخطرة مثلها مثل المخلفات النووية، ويلزم لمن يقوم بالمشاركة في عملية التخلص منه أن يكون مدربًا، وأن يرتدي بدل واقية قريبة الشبه بتلك التي نشاهدها في المواقع النووية او ذات الانبعاثات الكيميائية او الضارة.
وتابع: يجب كذلك وضع الأنقاض في حاويات مخصصة لنقل المواد الخطرة إلي مدافن صحية معدة لهذا الغرض لأن دفنه بطريقة عشوائية يهدد بتلويث المياه الجوفية.
وضرب مثلا بواقعة حاملة الطائرات الفرنسية «كليمنصو» التي أثارت أزمة عام ٢٠٠٦ عندما رست بالقرب من مياه قناة السويس وعلي متنها شحنة من مخلفات "الأسبستوس"، ما هدد بتعريض المنطقة لخطر بيئي، وشنت المنظمات وجماعات حماية البيئة هجومًا حادًا علي حاملة الطائرات التي كانت متوجهة لإحدى الدول الآسيوية.
وأضاف أنه يجب حصر أسماء المواطنيين الموجودين بالكامل وتشخيص الأمراض ذات الصلة بالأسبستوس في المراحل المبكّرة وعلاجها وتأهيل المصابين بها اجتماعيًا وطبيًا، وإعداد سجلات بأسماء الأشخاص الذين تعرّضوا للأسبستوس في الماضي أو الذين يتعرّضون له في الوقت الحاضر، وختم بأنه إضافة إلى ذلك من الضروري والهام أيضًا وقف استخدام تلك المادة الضارة بالإنسان والبيئة لأنه الحل الوحيد الذي أوصت به منظمة الصحة العالمية والهيئات الدولية لحماية الإنسان والبيئة من أخطارها.
جديرًا بالذكر أن هناك كارثة أخرى تواجه إزالة الأنقاض وهي القنابل غير المتفجرة، إذ أوضح المسؤول في دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام، بير لودهامار أنه ما لا يقل عن 10%" من الذخائر التي يتم إطلاقها في النزاع لم تنفجر، وتشكل تهديدا دائما للسكان وللفرق المسؤولة عن البحث في الأنقاض.