ماذا خسرت واشنطن من الحرب فى قطاع غزة؟
من الواضح أن طريقة تعامل الولايات المتحدة مع حرب غزة، أفقدتها ما تبقى لها من مصداقية وحيادية بين قسم من الجماهير العربية.. فالمتابع لما ينشر في الإعلام العربي وعبر منصات التواصل الاجتماعي، يدرك فعلًا كم بلغت خسارة الولايات المتحدة في قوتها الناعمة في المنطقة، التي استثمرت فيها على مدار قرن من الزمن، تريليونات الدولارات وكثير من الدماء والجهود، التي على ما يبدو مهددة بالضياع كليًا بسب الصراع في غزة.. علاوة على ذلك، توفر حرب غزة خدمة للإرهاب في المنطقة.. لأن المبدأ الأول والمهم في مكافحة الإرهاب، هو ضرورة الفوز بمعركة القلوب والعقول.. فربح هذه المعركة يضمن حرمان الإرهابيين من أي حاضنة شعبية، فضلًا عن أنه يساعد على تعبئة الرأي العام لقتالهم.
ونتيجة الدعم الأمريكي اللا محدود لإسرائيل، وصلت نسبة الثقة في الولايات المتحدة وتأثيرها بين شعوب المنطقة إلى أدنى مستوياتها، بينما تصاعدت نسبة التأييد لمنافسيها وخصومها الاستراتيجيين (الصين، وروسيا وإيران).. وفي الوقت نفسه، فإن هناك مؤشرًا مثيرًا للقلق يؤكد وجود تصاعد في المواقف التي أسهمت في تغذية عمليات التجنيد الإرهابية السابقة لتنظيم داعش أو القاعدة أو حتى الميليشيات.. باختصار، ونتيجة الحرب على غزة، صارت الولايات المتحدة تخسر مقارنة بمعارضيها، حيث بلغت نسبة العرب الذين يعتقدون أن للولايات المتحدة دورًا إيجابيًا في حرب غزة 7% فقط، وفي بعض الدول كانت 2% فقط.. مقابل ذلك فإن نسبة العرب الذين يقولون إن للصين دورًا إيجابيًا بلغت 46%، كما بلغت نسبة من يعتقدون أن لروسيا تأثيرًا إيجابيًا 47%.
طوال الخمسة عشر عامًا التي أعقبت الانسحاب من العراق عام 2011، شهدت كل إدارة رئاسية أمريكية، دعوات محلية للانسحاب من منطقة الشرق الأوسط.. لكن في كل مرة كانت فيها هذه الأصوات تعلو، يبرز متغير إقليمي جديد يفرض على الإدارة الأمريكية العودة لممارسة دورها التقليدي، الذي تفرضه عليها طبيعة مصالحها الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية الملحة.. عقب الانسحاب الأمريكي من العراق، حدث فراغ استراتيجي أدى الى ظهور تنظيم (داعش)، وما تلاها من حرب تسببت في مقتل الآلاف محليًا ودوليًا، وتهجير الملايين من أبناء المنطقة، فاضطر الجيش الأمريكي للعودة الى المنطقة بقوة للمشاركة في القضاء على داعش.. وبعد إعلان الانتهاء من القضاء على التنظيم، برزت تهديدات إقليمية جديدة تمثلت في إيران وأسلحتها، التي شكلت مصدر تهديد، ليس لحلفاء الولايات المتحدة فقط، وإنما حرية تدفق الإمدادات النفطية للعالم.. وفي الوقت الذي ظنت فيه إدارة بايدن أن تلك المشكلة يمكن حلها من خلال توفير حزمة مكافآت واتفاقات مع إيران، برزت الحرب في غزة لتؤكد من جديد خطأ كل التقديرات، التي تعتقد أن هذه المنطقة لم تعد مهمة لمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية.
وطبقًا لما ورد في القسم الثالث من وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، الموقعة من الرئيس جو بايدن في أكتوبر 2022، فإن الأولوية الأولى للولايات المتحدة على المسرح العالمي، هي التفوق على الصين ثم الحد من نفوذ روسيا.. كما تضمنت الوثيقة أولويات الأمن القومي ومكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.. ومع ذلك، وعندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، سيشكل التصور العام الإقليمي السائد بخصوص دور الولايات المتحدة ونواياها في الشرق الأوسط أمرًا حاسمًا لجميع هذه المهام.. وفى هذا السياق، تشير الأرقام التي أسفر عنها استطلاع الرأي العام، الذي أجرته المجموعة المستقلة للأبحاث IIACSS وشركاؤها في المنطقة، الذي شمل عينات وطنية في ستة دول عربية مهمة (العراق، سوريا، الأردن مصر، لبنان، وفلسطين)، في أكتوبر 2023، إلى أن الولايات المتحدة تخسر نفوذها بشكل قد يؤثر على الأولويات الثلاث التي حددتها وثيقة الأمن القومي.
ويبدو أن إيران كانت أحد أكبر المستفيدين من هذه الحرب في غزة، حيث بلغت نسبة من يقولون إن لها تأثيرًا إيجابيًا في الحرب 40%، ونسبة من يقولون إن لها تأثيرًا سلبيًا 21% فقط.. ومن الواضح أن طريقة تعامل الولايات المتحدة مع حرب غزة، أفقدتها ما تبقى لها من مصداقية وحيادية بين قسم من الجماهير العربية،.. فالمتابع لما ينشر في الإعلام العربي وعبر منصات التواصل الاجتماعي، يدرك كم بلغت خسارة الولايات المتحدة في قوتها الناعمة في المنطقة، التي استثمرت فيها على مدار قرن من الزمن، تريليونات الدولارات وكثيرًا من الدماء والجهود، التي على ما يبدو مهددة بالضياع كليًا بسب الصراع في غزة.
إذا كانت الولايات المتحدة قد تعللت في دعمها لإسرائيل، بمكافحة الإرهاب في المنطقة، كما تعلن مرارًا وتكرارًا، فإن أرقام استطلاعات الرأي العام العربي لا تحمل سوى أخبار غير سارة لهذا الجهد.. فعند السؤال عن الأسباب التي جعلت أمريكا والغرب يساندان إسرائيل لم يجب سوى 8% تقريبًا بأن السبب هو للدفاع عن المدنيين الذين خطفتهم حماس أو قتلتهم يوم السابع من أكتوبر.. أما الغالبية المطلقة، فوق 50%، قالوا إن سبب دعم الغرب لإسرائيل لكرههم للإسلام والمسلمين، وقوة اللوبي الإسرائيلي.. بمعنى أن غالبية العرب ترى أن دعم الغرب للحرب التي تشنها إسرائيل ضد حماس، هو بمثابة دعم للحرب ضدهم، مع أن أحد أهم أسرار القوة الناعمة الأمريكية في مواجهة منافسيها، كان النموذج الأمريكي القائم على حقوق الإنسان وعدم العنصرية، ورفض (شريعة الغاب) في التعامل بين الدول، إلا أن الأغلبية الساحقة من الناس لا تعتقد الآن، أن مثل هذه المبادئ يتم تطبيقها في الموقف الأمريكي الرسمي من الحرب في غزة.
هذه المعلومات تُثير القلق بالنسبة لصانعي السياسات في الغرب، وبالذات في الولايات المتحدة، خصوصًا عندما يفكرون في الكيفية التي تحول بها مشهد الرأي العام العربي ضدهم.. بمعنى أن غالبية العرب ينظرون إلى الصراع كونه حربًا صليبية جديدة وليست لمحاربة الإرهاب.. ويرتبط هذا الانقسام العميق حول مسألة الصراع الأساسي للحرب أيضًا، بكيفية رؤية الجماهير العربية لهجوم حماس في السابع من أكتوبر، ففي الوقت الذي يتم الترويج في الغرب لسردية أن هجوم حماس قد حصل لوقف التطبيع مع إسرائيل، أو لخدمة أهداف إيران في المنطقة، أو لخدمة أهداف حماس في تثبيت سيطرتها على الوضع في غزة، فإن قليلًا فقط من العرب هو من تبنى هذه السردية، في حين أن أكثر من 60% منهم، فسروا أسباب هجوم حماس بثلاثة أسباب متدرجة، من الأعلى للأقل في قوتها، هي: تحرير فلسطين ثم وقف انتهاكات إسرائيل للمسجد الأقصى، ثم وقف بناء المستوطنات.
مع ذلك، ما زالت هناك جوانب إيجابية، حيث ما زالت الولايات المتحدة تحظى بقدر جيد من ثقة العرب على قدرتها لمساعدة الفلسطينيين إن أرادت ذلك.. لكن يجب التنبيه هنا إلى أن ذلك سلاح ذو حدين.. فحينما تثق بقدرة شخص أو جهة ما على حل مشكلة تواجهك، ثم لا يقوم ذلك الشخص أو تلك الجهة بفعل ما تتوقع منه، فإن ذلك قد يرفع من منسوب الغضب تجاه الولايات المتحدة كثيرًا.. لقد أظهرت آراء الشارع العربي أنه ما زال هناك ضوء في نهاية النفق، فرغم كل الألم الذي يشعر به العرب، فإن جانبًا مهمًا منهم ما زال يؤمن أن حل الدولتين ممكن.. والوقت وحده هو الذي سيحدد، ما إذا كانت هذه التحولات في الرأي العام العربي تجاه الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية مجرد تصاعد مؤقت في الغضب، أو ما إذا كانت هذه المواقف ستزداد تشددًا وقوة، وتؤدى إلى حدوث تغيير أكثر استدامة.. وفى هذا الصدد، هناك عاملان من المرجح أن يلعبا أدوارًا مهمة في تشكيل المسار المستقبلي للرأي العام العربي تجاه حرب غزة والغرب.
يتمثل العامل الأول في فترة الحرب، حيث أصبحت مشاهد الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين القتلى والجرحى، منتشرة الآن في كل مكان في وسائل الإعلام العربية التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي.. في حالة طال أمد الحرب، قد يشعر بعض العرب بالضجر من الصراع وينصرفون إلى قضايا أخرى.. ومع ذلك، وفى ظل التغطية الإعلامية المكثفة في العالم العربي، سيكون من الصعب تصور حدوث تحول كبير بعيدًا عن الصراع الدائر.. وكلما طال أمد الصراع وطغت هذه المشاهد على الوعي الشعبي العربي، زاد احتمال استمرار الغضب العربي، أو حتى نموه إلى ما هو أبعد من فترة الصراع الحالي.
أما العامل الثاني، فهو يتمثل في المسار الذي سيتخذه الصراع الحالي، والذي سيساعد في تشكيل المواقف العربية تجاه الحرب والغرب.. وبعبارة أخرى، ستكون تصرفات الحكومة الإسرائيلية وداعميها الغربيين حاسمة، في كيفية تأطير هذه الحرب في العالم العربي بعد انتهائها.. في الوقت الراهن، أصبحت المخاوف من التهجير الجماعي لفلسطينيي غزة والضفة الغربية إلى مصر أو الأردن أو أي مكان آخر، نقطة محورية في وسائل الإعلام العربية.. لذلك، إذا حاولت إسرائيل نقل أجزاء من السكان الفلسطينيين إلى خارج غزة أو استمر احتلالها لغزة لفترة طويلة، فمن شأن ذلك أن يزيد من تأجيج الرأي العام العربي تجاه الصراع ويعمق الاستياء تجاه الغرب.. ومن المرجح أن تتبع المواقف العربية المستقبلية تجاه إيران والصين وروسيا، إلى حد كبير، نفس المنطق.. وربما لا يرجع هذا التحول إلى أي إجراءات محددة أو رسائل وطنية من جانب هذه الجهات الفاعلة، بل يعود إلى الاعتراف بأن هذه البلدان (أعداء عدوي) ومعارضون صريحون للغرب على طريقتهم الخاصة.. ومن ثم، فإن مدى استمرارية مكافأة الأفضلية هذه سيعتمد أيضًا على مدة الصراع ومساره.
من المستحيل التفكير في الأرقام الصادمة من الدمار والقتل والتجويع في قطاع غزة، دون النظر فيما إذا كانت إسرائيل قد انتهكت القانون الإنساني الدولي خلال حملتها.. في الواقع، يشير قدر كبير من المعلومات المتاحة علنًا إلى أن إسرائيل فعلت ذلك.. ونشرت منظمات حقوقية ووسائل إعلام، تقارير عن العقاب الجماعي غير القانوني بحق السكان الفلسطينيين، واستخدام التجويع سلاحًا في الحرب، والقصف الجوي والمدفعي، وهدم المباني التي لم تتضمن أي أهداف عسكرية واضحة، ورغم ذلك أدى إلى خسائر مدنية كبيرة ودمر الممتلكات.. وقد توصلت تحقيقات منظمات حقوق الإنسان العالمية إلى حصول غارات غير قانونية متكررة على مستشفيات غزة، ووجدت منظمة العفو الدولية أن المنازل المكتظة بالمدنيين في غزة تعرضت للقصف بـ(ذخائر الهجوم المباشر المشترك) أمريكية الصنع، التي تم شراؤها بأكثر من 23.5 مليار دولا، دعمًا أمريكيًا حديثًا لإسرائيل.
لقد أدى استخدام إسرائيل المتكرر للأسلحة الثقيلة، في المناطق المأهولة بالسكان، إلى زيادة المخاوف من احتمال تنفيذها هجمات عشوائية غير قانونية أكثر.. وحين يكون السؤال، ما إذا كانت إسرائيل تنتهك القانون في غزة، فهناك ما يكفي من الدخان للتأكد من نشوب حريق، وهذا وضع المسئولين الأمريكيين في مأزق، وأفقدها صورتها التقليدية بأنها (كبيرة) العالم، كما فقدت واشنطن الثقة في قدرتها على إدارة السياسات الدولية، وأصبحت في نظر الغالبية، صانعة الحروب في العالم، وليست الباحثة عن السلام في كل المعمورة كما تدعي، وأن ما يُثار بين حين وآخر، عن جولة من المفاوضات بين حماس وإسرائيل، لا يعدو كونه مسرحية مُتفقًا عليها بين واشنطن وتل أبيب.. إذ كيف يمكن تفسير السعي نحو اتفاق للسلام، والكيان الصهيوني يقتل كبير المفاوضين الفلسطينيين علانية في طهران، وطائراته تدك المدارس ومخيمات اللجئين على رءوس النازحين إليها، في قطاع، صار مقبرة كبيرة للمدنيين العُزَّل.
■■ وبعد..
من المهم تقييم ما تعنيه المواقف العربية السلبية السائدة تجاه الولايات المتحدة، بالنسبة للعلاقات بينها وبين حكومات هذه الشعوب، وما إذا كان الرأي العربي (في الشارع)، يمكنه الضغط على الحكومات العربية لتقليص مستوى العلاقات والتعاون مع واشنطن.. في حين أنه من غير المرجح أن يكون هناك أي انقطاع عميق، في العلاقات بين الولايات المتحدة والحكومات العربية الصديقة بشأن هذا الصراع، إلا أنه سيكون من غير المريح، على نحو متزايد بمرور الوقت، أن تتعامل الحكومات العربية علنًا مع المسئولين الأمريكيين إذا استمر الصراع، أو اتخذ مسارًا أكثر ضررًا لسكان غزة.. سيكون من المهم أيضًا تقييم عمق الغضب العربي تجاه الغرب، وفهم ما إذا كانت هناك فترة زمنية معينة تدهورت فيها المواقف العربية تجاه الولايات المتحدة بشكل سيئ للغاية، بحيث لم يعد يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها شرٌ لا بد منه في المنطقة، بل أصبحت فاعلًا غير مُرحب به من قِبل الأغلبية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.