ابن شرعي للموت.. أعاجيب وأكاذيب خلقت أسطورة رحيل عمر خورشيد
«عمر خورشيد نجا من الموت بأعجوبة».. كان هذا عنوان خبر ضئيل غير لافت، مختبئ فى صفحة داخلية من صفحات مجلة «الكواكب» الصادرة فى عدد ١٨ نوفمبر ١٩٨٠.. ومتن الخبر يحمل مفارقة مذهلة، حيث كشفت كلماته القليلة ما يُشبه البروفة لموت مؤجل سيحدث لفتى الجيتار الأول بعد ٦ أشهر من نشر هذا الخبر بنفس السيناريو الذى نشر تمامًا.. وكأن محرر الخبر يكتب بعين تنظر للمستقبل القريب، التفاصيل تكاد تكون متطابقة بين خبر بروفة الموت وتفاصيل الموت نفسه بعد ذلك، ففى الحالتين كانت سيارة عمر تسير بسرعة جنونية كعادته، وفى الحالتين كانت دينا زوجته تجلس بجانبه، وفى الحالتين كان شارع الهرم عاملًا مشتركًا حيث اصطدمت سيارة عمر بسيارة أخرى وتهشمت السيارة تمامًا، لكن الفارق الوحيد أن عمر ودينا خرجا دون إصابات تذكر فى الحادث الأول.. لكن فى الثانى خرجت دينا فاقدة الوعى محملة بإصابات بالغة، بينما خرج عمر فاقدًا الحياة بعد أن هاجرت روحه فور حدوث الارتطام؛ لتترك جسده وحيدًا بين زجاج سيارته المهشمة بعد أن تحولت حواف الزجاج المتكسر إلى نصال حادة فى رقبة عبقرى الجيتار ودنجوان العصر الجديد.
ويكتب يوم ٢٩ مايو ١٩٨١ نهاية لحياة شاب ثلاثينى ملأ الدنيا فى سنوات قليلة فنًا وأنغامًا وشغفًا، كما ملأت حكاياته فضاء النميمة السبعيناتى الذى لا يشبع.. عمر تزوج، عمر طلق، عمر أَحب، عمر داهمته الحُمى، عمر طار إلى أمريكا، عمر ذهب للقدس مع السادات، خطبة عمر بحضور الست أم كلثوم، عمر هو إلفيس بريسلى الشرق، عمر الدنجوان الجديد بعد أفول نجم رشدى أباظة.
هكذا مئات العناوين والأخبار التى رافقت عمر خورشيد أينما ذهب، بشكل جعله فتى غلاف محببًا عند صانعى المجلات الفنية، مدركين أن أثر وجوده على الغلاف سوف يصل حتمًا إلى أرقام المبيعات التى تتناسب طرديًا مع سخونة الغلاف، وليس هناك ما هو أسخن من عمر وحكاياته.
ثم جاء موت عمر ليغلق باب حياته، لكنه فى الوقت ذاته فتح بابًا جديدًا من الحكايات التى لم تنضب حتى الآن، اختلط فيها الواقع بالخيال؛ لتخلق جوًا أسطوريًا حول ملابسات موت مروع كان جديرًا أن يرتبط برجل امتلك كل تلك الحياة الصاخبة.
كر وفر بين الموت وملك الجيتار بشهادة محرم فؤاد.. ونبوءة عرافة فرنسية تحسم الأمر
تشعر بأن عمر خورشيد شخصية جاذبة للقصص الأسطورية التى يختلط فيها الحقيقى مع المتخيل، وفى النهاية لا تستطيع التفرقة بين هذا وذاك.. ففى عدد «صباح الخير» بعد الوفاة موضوع صحفى أفرد على صفحتين ضمن الملف الخاص للمجلة عن رحيل ملك الجيتار كان عنوانه «عرافة فرنسية تتنبأ بموته منذ عام»، والقصة باختصار، كما ذكرت فى الموضوع، أن زوجته دينا قابلت عرافة فرنسية شهيرة فى السبعينيات كانت تعيش فى باريس، وكانت الموضة حينها أن يأتى إليها المشاهير من أماكن شتى وتقرأ لهم الطالع، وكان هذا الأمر معتادًا وشائعًا فى كل العالم، ومنها العالم العربى، والعرافون تُفرد لهم الإعلانات والحوارات الصحفية، كما النجوم تمامًا، ومن يطلع على أعداد مجلات الشبكة والموعد مثلًا فى تلك الفترة سيدرك مدى سطوة العرافين وقارئى الطالع والمُنجّمين حينها.
نرجع إلى ما ذكرته «صباح الخير» على عهدة زوجته دينا، التى كانت فى لحظة النشر تعالج من كسور مضاعفة إثر الحادث المروع، حيث تقول الرواية إن دينا ذهبت لتلك العرافة الفرنسية الشهيرة وأعطتها بياناتها وقرأت اسم زوجها- الذى لا تعرفه العرافة بالطبع- واسم أمه وتاريخ ميلاده، ثم نظرت إلى دينا لتقول لها هكذا دون مواربة أو تخفيف «ستصبحين أرملة، وسيموت زوجك فى حادث سيارة وأنت بجواره».
واستكمالًا للأسطورة، عندما تفيق دينا من غيبوبتها فى مستشفى الأنجلو بعد الحادث تسأل عن زوجها عمر، فيقولون لها إنه بخير لا تقلقى، لكنها تكذبهم جميعًا وتقول «غير صحيح أنتم تكذبون.. قالت لى العرافة إنه سيموت فى حادث».
هنا لا أستطيع أن أنفى أو أثبت أى كلمة قيلت على لسان دينا ونقلها صحفى صباح الخير أو حتى أضاف عليها بهارات صحفية تزيدها التهابًا مع سخونة الموضوع.. لكن ما هو مؤكد أن موت عمر خورشيد كان أشبه بالبؤرة التى تجذب كل ما هو غريب وأسطورى، وفتحت المجال لمحبى الغموض والخيال لتظهر روايات لمقتله بعدد لا محدود.
محرم فؤاد المطرب الكبير وصديق عمر ورفيقه فى رحلاته الأخيرة خارج مصر رصد وحده أكثر من محاولة لمراوغة الموت لخورشيد، آخرها كانت فى رحلة أستراليا، حيث قربت الغربة إنسانيًا بين محرم وعمر بشكل أكبر، ويحكى محرم لمجلة «الشبكة» عدد ١٥ يونيو ١٩٨١ الصادر بعد وفاة عمر بأسبوعين قائلًا: «ذهبت قبله إلى سيدنى بعد ملبورن، ولحقنى فى اليوم التالى. وكنت أنتظره فى المطار مع عدد من المصريين الذين أصروا على الذهاب إلى المطار لاستقباله، ورأينا الطائرة تهبط بأرض المطار، فتقفز فوقه وكأنها كرة! وهلعنا، وحبسنا أنفاسنا حتى وصلت الطائرة، فحمدنا الله، حين جاء عمر قال: اليوم كُتب لى عمر جديد بعد أن هبطت الطائرة هبوطًا فظيعًا يقطع بأن الطيار كان فى حالة سُكر تام.. وتخلعت المقاعد، وأصيب عدد كبير من الركاب إصابات بالغة لأنهم لم يربطوا الأحزمة.. وقال عمر لمحرم مندهشًا: تصور يا محرم أنى كنت أستهين بربط الأحزمة حتى عرفت اليوم أنها أنقذتنى من الموت».
واستطرد محرم فؤاد يحكى لصحفى «الشبكة»، قائلًا: «وقرأنا فى الصحف بعد ذلك أن الطيار قُدم للمحاكمة بسبب إهماله الجسيم.. وأن الطائرة تحتاج لأموال كثيرة لإصلاحها.. والركاب المصابون طالبوا شركات التأمين بمبالغ طائلة عن إصاباتهم».
حام الموت كثيرًا حول عمر قبل ذلك، كما يحكى محرم فؤاد، فى رحلة فنية خارج مصر أيضًا لكنها فى الغرب هذه المرة، حيث كندا وتحديدًا مدينة مونتريال التى تعج بالجالية العربية العاشقة للفن المصرى، يقول محرم: «كنا فى مونتريال، والجليد يغطى الأرض، وقد خرج عمر ليشترى بعض الأشياء، إنه يحب الإنفاق ولا يكترث للنقود.. وفجأة انزلقت عربة ضخمة من عربات النقل لتصطدم بالسيارة الأجرة التى كان يستقلها عمر، وتهشمت السيارة تمامًا من الناحية التى كان يجلس فيها عمر منذ لحظات، واختفى نصفها تحت أكوام الجليد على جانبى الشارع، وأصيب سائق السيارة.. أما عمر فلم يصب بسوء، فقط حام الموت حوله.. وكأنه يوجه له إنذارًا من إنذاراته المتكررة».
هل انتهت مراوغات عمر للموت أو بالأحرى مراوغات الموت لعمر عند تلك المحاولتين اللتين حكاهما محرم فؤاد؟
الحقيقة لا.
فقد حكى محرم موقفين آخرين، أحدهما فى بيروت والآخر فى أمريكا.. نبدأ بما حدث فى بيروت، وكان قبل موته الفعلى بست سنوات، حيث كان يعيش عمر مع زوجته دينا فى شقة فى شارع الحمراء، وسأل محرم عليه تليفونيًا عندما كان فى زيارة لبلاد الأَرْز، فقالوا له إنه فى المستشفى الفلانى، فطار محرم إلى هناك ليجده ممددًا على فراشه وقسمات وجهه تختفى تحت طبقات من القطن والشاش: ماذا حدث يا عمر؟، فقال إنه سقط على سور شرفة الشقة، فانفتح ذقنه، وأصيب وجهه بجراح استدعت نقله إلى المستشفى ليوقف نزيف الدم ويجرى جراحة تجميل لإصاباته.. وكان السقوط شديدًا كفيلًا بإنهاء حياته إذا كانت الإصابة على أُم رأسه.
وحكى محرم عن موقف آخر لاقتراب الموت من عمر، وكان تحديدًا فى ولاية نيوجيرسى فى العام السابق على وفاته، حيث كان الاثنان يقدمان حفلًا فى إحدى دور السينما هناك، وكان الجمهور العربى من المغتربين يملأ المكان.. لم يكن هناك مقعد واحد خالٍ.. وفجأة همس أحدهم فى أذن محرم قائلًا: «تلقينا بلاغًا الآن بإخراج الجمهور من القاعة.. لأن مكالمة تليفونية أبلغتنا بأن مجهولًا وضع قنبلة فى قاعة السينما»!
ذهب محرم مفزوعًا وقال لعمر الذى لم يبد عليه أى انزعاج، وقال: «يا رجل سيبك، لو كان لنا عمر فسوف نعيش حتى لو انفجرت قنبلة فى طائرة تحملنا وتطير بنا»، ولكن هذا الإيمان من عمر، وهذا الثبات لم يمنعا رجال الشرطة من إخلاء دار السينما فى ترتيب ونظام، وجرى تفتيش الدار بأحدث الأجهزة الكشافة وصعد إلى خشبة المسرح من يعلن أن البلاغ الذى تلقته دار السينما كاذب، وأن التفتيش أثبت أن لا شىء هناك.. وأن من حق الجمهور أن يعود ويستمتع بالليلة.
مَن قتل خورشيد؟.. سؤال حائر من الثمانينيات
بعد موت عمر خورشيد.. كتب صديقه مدحت السباعى الصحفى والمخرج فيما بعد، يتساءل بفزع فى مجلة «صباح الخير» هل قُتل عمر خورشيد؟.. كشف مدحت عن واقعة لم تكن متداولة من قبل عنونها فى موضوعه باسم «الطرد الناسف» يكشف فيها قائلًا «المقربون من عمر خورشيد يعرفون واقعة غريبة حدثت له وكادت تودى بحياته منذ عدة شهور، فقد أُرسل لعمر طرد من الخارج عبارة عن بطارية سيارة، وشك عمر فى الأمر لأنه لم يطلب من أحد أن يرسل له بطارية لسيارته، فأبلغ السلطات التى فحصت الطرد واكتشفت أنها عبوة ناسفة كانت ستنفجر فور فتحها»، ثم قال مدحت السباعى بصفته صديقًا لعمر إن تلك الواقعة كان لها أبلغ الأثر على نفسه ومن حوله، ولازمه شعور بأنه مستهدف بعد رحلة القدس مع السادات.
الأخبار الأولى عن وفاة عمر التى نشرت فى الجرائد الصباحية كانت مثيرة للتساؤلات، وفتحت بابًا من التكهنات والسيناريوهات لم تنغلق حتى يومنا هذا «مصرع عمر خورشيد وهو يطارد سيارة مجهولة فى شارع الهرم».. كلمة مجهولة تزيد عدد الفضول عند القراء الذين ظلوا يبحثون عن حل لهذا اللغز.. لكن الأمر لم يأخذ إلا أيامًا حتى خرجت الصحف بما يمحو صفة «مجهولة» عن السيارة بعد أن ضبطت الشرطة صاحب السيارة أو سلّم هو نفسه، كما قالت بعض الروايات، وتبين أنه طالب سعودى اسمه أحمد فهد، ويدرس فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة وممنوع من السفر لاتهامه سابقًا فى حادث سيارة آخر أصيب فيه نقيب المحامين الأسبق أحمد الخواجة.. والسيارة ماركة بونتياك ورقمها ٣٥٧٢ جمرك الإسكندرية.. وكان برفقة الشاب السعودى صديق له يعمل بارمان، وسلم البارمان نفسه لشرطة عابدين بعد أن رأى أوصاف السيارة يتم تداولها فى الجرائد، فآسر السلامة وأدلى داخل مديرية أمن الجيزة باعترافات تفصيلية لما حدث ذلك اليوم، حيث قال وفقًا لما كُتب فى الجمهورية إنه أثناء سيرهما بشارع الهرم بعد انتهاء السهرة فوجئ بسيارة الفنان عمر خورشيد تسير بجوارهما بسرعة جنونية، فدخل الشاب معه فى سباق تبادلا فيه التقدم عدة مرات على امتداد شارع الهرم حتى حدث ما حدث عند مدخل الطريق الصحراوى.
شهادات الشهود، وعلى رأسهم الفنانة مديحة كامل بالطبع، حمّلت صاحب السيارة المسئولية كاملة واتهمت الطالب السعودى بمعاكستها ومعاكسة زوجة عمر، ما أدى إلى غضب خورشيد، فراح يطارده، وعند مشارف الطريق الصحراوى انحرف الشاب السعودى بشدة ناحية سيارة خورشيد، فاصطدمت سيارته بالجزيرة الوسطى، وانقلبت عدة مرات.
وبقى موت عمر خورشيد مثل حياته تمامًا مثار حكايات ونميمة لا تنقطع، وطالت الاتهامات أطرافًا وأشخاصًا عدة على الرغم من أنها كانت قضية محسومة على المستويين الشرطى والقضائى.. ببساطة حادث سير أدى إلى الموت نتيجة السرعة الجنونية.. لكن لأن الإثارة لا تتوقف عند بنى الإنسان، فلا بأس من دخول الجن والعالم السفلى على الخط.. لنأتى إلى الرواية الأغرب لموت ملك الجيتار.
تفكيك أكذوبة «العفريت» صديق عمر الذى ينافس نجيب محفوظ فى البلاغة
فوجئ قراء الكواكب وهم يطالعون العدد الصادر فى ٢١ يوليو ١٩٨١ بعد ما يقارب شهر من الوفاة، بموضوع صحفى شديد الغرابة بعنوان فرعى محفز يقول «سر يُذاع لأول مرة عن فنان الجيتار الراحل»، ثم عنوان كبير واضح صريح ليس فيه أى تركيب لغوى ولا حُليات لأن ما فيه لا يحتمل التأويل ولا التجميل، العنوان من ٤ كلمات فقط لا غير.
«عمر خورشيد كان متصلًا بالجن».
الموضوع ممهور باسم كاتبه حسن الحفناوى، الذى كان علاوة على كونه صحفيًا فهو صديق مقرب من عمر فى سنواته الأخيرة على حد قوله.. وبينهما مشاريع فنية محتملة، ما يعطى لرواية الحفناوى الأسطورية عن اتصال عمر بالعالم السفلى مسوغات التصديق على الرغم من غرابتها.
بدأ الحفناوى حكايته الجاذبة للانتباه بأنه لاحظ أثناء لقاءاته المطولة مع عمر فى بيته وجود كتب كثيرة تتكلم عن عالم الجن والعفاريت، ثم طلب منه أن يكتب له عملًا عن الأرواح والجن لأنه موضوع شيق للجمهور، وبالفعل بدأوا جلسات التحضير لكتابة هذا العمل، وفى أثناء إحدى جلساته، طبقًا لحكاية الحفناوى التى لا يستطيع أحد تكذيبها لكون الطرف الثانى غير موجود، يبنى الرجل قصة متكاملة بسيناريو وحوار، حيث يقول إن عمر بعد أن طلب منه كتابة هذا العمل سأله: هل تعرف لماذا أنا متحمس لهذا الفيلم؟، ثم أردف «سأحكى لك حكاية لن يعرفها أحد غيرك ملخصها بغير إخلال أنه فى ذات مساء كان عمر وحده فى المكتب يراجع عملًا فنيًا جديدًا، وفجأة انقطع التيار الكهربائى، فأوقد بعض الشموع ووزعها فى أرجاء المكتب الضيق ليكمل عمله، لكن تيارًا هوائيًا غامض المصدر كان يطفئها فيعيد عمر إشعالها.. ولما تكرر الأمر أكثر من مرة ضحك عمر، وقال محدثًا نفسه فى سخرية: هو فيه عفريت هنا ولا؟!.. وحينئذ سمع صوتًا عريضًا يقول له: لأ يا عمر.. أنا مجرد صديق!».
ومن هول المفاجأة، قفز عمر من فوق المكتب وانطلق إلى الخارج وهو لا يصدق أنه سمع هذا الصوت، وحاول أن يؤكد لنفسه أنها مجرد تهيؤات، ولكن الصراع بين حقيقة ما سمع وما يعتمل فى نفسه جعله يتوجس خيفة من ذلك الزائر الذى أتى إليه من أعماق المجهول دون سابق إنذار!
وفى ساعة مبكرة من صباح اليوم التالى، ذهب عمر إلى مكتبه ليجد شيئًا أصابه بالذهول والخوف، فقد وجد أن الشموع ما زالت مشتعلة دون أن تنصهر رغم تأجج النار فوقها، فحاول إطفاءها ولكنها لم تستجب لتيار الهواء المنبعث من فمه، فأحضر قطعة صغيرة من الخشب وراح يضغط بها على الشموع الواحدة تلو الأخرى، فاشتعلت قطعة الخشب فى يده، بينما ظلت الشموع مشتعلة وكأنها تتحداه، ولم يجد عمر شيئًا يبعث الطمأنينة فى نفسه سوى القرآن، فأحضر مصحفًا وراح يقرأ منه سورة «يس»، وما هى إلا دقائق معدودات حتى انطفأت الشموع دفعة واحدة. وهنا شعر بيدين قويتين تضغطان على كتفيه، فراح صوته يعلو شيئًا فشيئًا بآيات الله حتى ابتعد عنه ذلك القادم المجهول!
ويستمر الحفناوى فى حكايته المزعومة التى تقترب فى تفاصيلها من صيغة سينمائية معروفة ومعتادة استُخدمت من قبل فى أفلام كثيرة، مثل «الفانوس السحرى» لإسماعيل ياسين التى تعتمد على ظهور الجني بشكل مفزع للشخص المختار، ثم بعد أن يتمالك نفسه يصير صديقًا للجن ويكون الجن خادمًا له، وهو ما أكده عمر للحفناوى وفقًا لروايته، حيث قال له إن الجنى وعمره ١٧٠٠ عام يمده بمعلومات وأسرار لا يستطيع البوح بها، ومن ضمن ما قاله عمر بتردد إن الجنى قال له جملة لم يفهم معناها، وهى «وجهك معكوس على شظايا زجاج»، وعندما سأله عن تفسير أكثر، قال له الجنى «إنه بركان أحمر يتلألأ فوق جبال قاتمة السواد».
بأقل القليل من التأمل للجملتين لا بد أن تتعجب من هذا الجنى البليغ الذى صاغ تلك الصورة الجمالية لما سيحدث لعمر خورشيد فى المستقبل، بشكل يجعله كاتبًا محترفًا يملك فصاحة لسان يفتقدها كُتاب كُثر وربما لو قرر احتراف الكتابة لصار نجيب محفوظ الجن.
وإمعانًا فى سبك الحفناوى روايته المزعومة، يقول فى مقاله إن أحدنا «يقصد هو وعمر» لم نفهم معنى ذلك وقتها، لكن الأمر وضح عندما مات عمر فى حادث سيارة، ورشقت الشظايا فى رقبته فانفجر بركان الدم الأحمر فى أرض الموت السوداء.
خيال خصب على ما يبدو امتلكه الراوى والصديق حسن الحفناوى ليسبك قصة رعب مخيفة يكون فيها هو الشاهد الوحيد على أحداثها، لكن تفاصيلها وخيوطها لا تعطيها شرعية أن تكون قصة حقيقية، وإنما أغلب الظن أنها نفس القصة التى كان يؤلفها لعمر ليمثلها بناءً على طلبه قبل وفاته، واختلط عليه الأمر ليحولها إلى موضوع صحفى ينشر فى الكواكب ويصير مادة خام بعد ذلك لأكثر من أربعة عقود لشلال من الموضوعات والفيديوهات التى تنشط سنويًا فى ذكرى عمر خورشيد، وتحكى وتتحاكى عن علاقة فتى الجيتار بالجن والعالم السفلى.. والدليل دائمًا «قالوووله».