فى محبة الشيخ محمد عبدالسلام
قبل التعرف على الشيخ محمد عبدالسلام فى بيت الشاعر محمد جاد الرب ببركة السبع منتصف ثمانينيات القرن الماضى، كنت أسمع حكايات عنه تشبه الأساطير، جاد للذين حالفهم الحظ وعرفوه، كان حكاءً من طراز نادر، يجمع بين الخيال وخفة الظل والمبالغة المحببة، فهو قدمه لنا باعتباره الرجل الذى قطع إفريقيا من شرقها إلى غربها مشيًا على الأقدام، وأنه عالم فلك لا نظير له، ولِمَ لا؟ فهو من أوائل الثانوية العامة على مستوى الجمهورية، واختار كلية العلوم دون غيرها وعمل فى هيئة الأرصاد الجوية، واصطدم برؤسائه لأسباب لها علاقة بالتوقعات، فتم إعفاؤه من مهامه ولكنهم لم ينجحوا فى فصله من عمله الذى خرج على المعاش منه، الدائرة التى كان يتحرك فيها معظمها من أعز أصدقائى فى القاهرة، مثل نجيب شهاب الدين وعادل الشرقاوى وسعيد عبيد وحسن عقل وعبده جبير والمستشار مصطفى عبدالعزيز والملك وليام إسحاق ويوسف عبدالحميد والشيخ حبشى فى الأبجية وغيرهم، رحمة الله عليهم جميعًا، كان يأتى أسبوعيًا من قريته شبراويش بمحافظة الدقهلية ليتمم علينا وعلى العالم الذى يحبه، يطل بجلبابه الأبيض ولحيته البيضاء المهذبة التى تضىء وجهه على زهرة البستان ويتجول بين معارض الفن التشكيلى والندوات التى كانت مزدهرة فى أتيليه القاهرة وحزب التجمع وغيرهما، وينتهى به المطاف فى بيت عبده جبير فى شارع جريدة السياسة خلف دار الهلال أو فى مصر القديمة عند نجيب شهاب الدين أو عند عادل الشرقاوى فى شارع زغلول بالهرم، كانت ابتسامته تسبقه أينما حل، وأيضًا مداعباته، لسبب ما قاطع نجيب، وسقط بيت عبده، ويُحكى أنه كان موجودًا فى الشقة التى سقطت بلكونتها فجاة وهو بالداخل، ولم يكن يعرف أن الاصطدام العنيف يخصه، فذهب ليستطلع الأمر ليجد أن البلكونة اختفت وأنه أصبح «منه للشارع»، وكأنه يطل على حفرة عميقة، بعدها انتقل عبده فى شقة فى شارع نوبار تفتقد إلى الحميمية التى ألفناها فى بيته العامر الذى تم تنكيسه، وبعد وقت قصير سافر إلى الكويت وسافر عادل إلى السعودية، وقبلها بسنوات سافر صديقه وصديقى الحبيب حسن عقل إلى فرنسا، كنت أعيش فى شقة متقشفة وودودة ومرحبة فى بولاق الدكرور، اختارها لتكون مبيتًا له فى ليلته فى القاهرة، لم تكن الحوارات بيننا حوارات مثقفين، كانت حوارات أقارب من الريف يقضون الوقت فى صحبة الشيخين مصطفى إسماعيل وعبدالفتاح الشعشاعى والغناء القديم، كان لا يأنس لوجود بعض الأصدقاء فى هذه الليلة، وكنت لا أستطيع منع أحد من المجىء، فقلت زياراته، ولكننا كنا نلتقى ونتهاتف بانتظام، وكان سعيدًا باستقرارى فى جريدة الأهرام، ويزورنى هناك، لم تكن آراؤنا فى السياسة متطابقة، وربما متناقضة، كان يعتقد «وهو اليسارى القديم» أن تيار الإسلام السياسى له مستقبل، وأنا على العكس تمامًا، ومع هذا ظللنا صديقين، ويتوقع أننى سأغير رأيى فى يوم من الأيام، إلى أن بدأت حركات الاحتجاج على نظام مبارك، التى شاركنا فيها جميعًا، وكانت هيئته المحببة فى المظاهرات والاعتصامات تغرى المصورين ووكالات الأنباء، جفوة قصيرة حدثت بيننا سنة ٢٠٠٥، كان هو سببها، كان قد خرج إلى المعاش فى هذه السنة، واتفق مع عدد محدود من أصدقائه كنت واحدًا منهم أن نلتقى مطلع كل شهر لنأكل «لحمة رأس» معًا عند مطعم فى باب اللوق لم يرق لى، وأقنعته بغيره بعد عدة أشهر، انتظمنا فى اللقاء، ولكنى لم أتمكن من الذهاب يوم ١ سبتمبر الذى ولد فيه ابنى حسن، بعد أسبوع تقريبًا مر على زهرة البستان وأبدى غضبه، وحين أبلغته بالسبب قال لى: «وفرحان؟ الأرانب بتخلف كل يوم»، لم يعجبنى رده، وكنت جافًا فى ردى، لم أستوعب وقتها أنه كان «هزارًا»، ولأننى كنت أنتظر مباركته لى، خصوصًا أنه كان يعرف مشكلة زوجتى الصحية قبلها. فى مطلع ٢٠٠٦ اتصل بى وقال إنه يريدنى معه لزيارة نجيب شهاب الدين فى بيته بعد قطيعة دامت سنوات، اتصلت بنجيب الذى لم يصدق، وقال لى بإلحاح «إنت متأكد إنه عايز يشوفنى؟»، دفعت الباب كالعادة، ودخلنا، وفجأة وجدتهما يأخذان بعضهما بالحضن ويبكيان، قلت لهما يبدو أننى جئت فى وقت غير مناسب، وتركتهما وانصرفت!. الذين لا يعرفون الشيخ محمد عبدالسلام يعتقدون أنه حاد الطباع إذا اختلف معك فى مسألة ما، هو يمتلك من الفراسة ما يجعله يكتشف الزيف والكذب فى الذين يتحدث إليهم، حتى لو كان الذى أمامه بارعًا فى عرض أفكاره، هذه الموهبة جعلته يصطفى أصدقاءه من مختلف التيارات والشرائح والأجيال، كانت فضيلة الاستغناء هى سلاحه فى مواجهة العالم، هو لم يضع ضرسه تحت إصبع أحد، وعاش حياته بالطريقة التى أرادها وبما يرضى الله، ولهذا كان الشاعر المتصوف النقى أقرب أصدقائه، لأن كلًا منهما سلك الطريق نفسه، ولكن حسن اتجه إلى التصوف وعاش فى رحاب آل البيت وانخرط فى دوائر الدراويش كأنه فى مرحلة الطفولة، أما الشيخ محمد فاهتم أكثر بالأفكار والتنقيب فى كتب التراث لتقصى أسباب ما نحن فيه، رحيل الشيخ محمد ذكرنى بكل الأحبة الذين غمروا حياتى بالمحبة والسكينة.. رحمة الله عليه وعليهم.