تراجع تاريخى.. كيف تواصل الدولة المصرية الحرب على الدين الخارجى؟
ثمّن خبراء الاقتصاد والمال والأعمال أحدث تقارير البنك المركزى التى أعلن فيها عن تراجع الدين الخارجى إلى ١٥٣.٨٦ مليار دولار بنهاية مايو الماضى، مقابل ١٦٨.٠٣ مليار دولار فى نهاية ديسمبر من العام الماضى ٢٠٢٣، بانخفاض قدره ١٤.١٧ مليار دولار، بنسبة بلغت ٨.٤٣٪.
واعتبر الخبراء أن مشروع تطوير منطقة «رأس الحكمة» بالساحل الشمالى كلمة السر فى التراجع السريع لحجم الدين الخارجى، إضافة إلى الزيادة المطردة فى الاحتياطى النقدى الدولارى لعدة أشهر متتالية، مؤكدين أن جذب المزيد من الاستثمارات يعزز الاستقرار الاقتصادى ويمكّن مصر من مواصلة خطط البناء والتنمية وتحقيق الرفاهية للمواطنين.
خلق مصادر دولارية مستدامة.. وتطوير قطاعات التصدير والسياحة والاستثمار
قال الدكتور أحمد السيد، الخبير الاقتصادى، إن المؤشرات الإيجابية التى أعلنها البنك المركزى بشأن تراجع حجم الدين الخارجى بهذا المقدار السريع، إضافة إلى الزيادة المطردة فى الاحتياطى النقدى الدولارى لعدة أشهر متتالية ليسجل مستوى قياسيًا غير مسبوق- سببها عاملان: أولهما يتمثل فى صفقة «رأس الحكمة»، التى أسهمت بشكل كبير فى ضخ تدفقات دولارية كبيرة، مكنت الدولة من سداد التزاماتها تجاه العالم الخارجى.
وأضاف أن الصفقة أسهمت فى تدعيم الاحتياطى النقدى بشكل كبير ليصل إلى تلك المستويات القياسية، لافتًا الى أن الطريقة التى جرى تصميم الصفقة وفقها يجب أن تكون نموذجًا لمشروعات أخرى مماثلة، فبالإضافة إلى القيمة القياسية لأرض المشروع، ستحصل الحكومة على ٣٥٪ من إيرادات المشروع لاحقًا، ما يعنى وجود تيار إيرادات دولارية مستمر للخزانة العامة للدولة.
وأشار إلى أن الصبغة السياحية لمشروع «رأس الحكمة» تعنى أن قطاع السياحة سينتعش بشكل عام، ويضمن توليد إيرادات بالعملة الصعبة تحصل الحكومة على جزء كبير منها، فضلًا عن حجم الاستثمار الضخم الذى سيتم ضخه فى المشروع بداية من العام الحالى بخلاف ثمن الأرض.
وأكد أن العامل الثانى يتمثل فى نجاح الدولة فى إدارة السياسة النقدية بصورة فعالة بشكل كبير، والقضاء على السوق الموازية بصورة سريعة، ما ساعد فى عودة تحويلات العاملين فى الخارج إلى مسارها الشرعى.
ونوه إلى أن استمرار معدلات الفائدة المرتفعة أسهم فى جذب الأموال الساخنة، التى يجب أن يكون لها دور على المدى القصير لحين استقرار الأوضاع، كما بدأنا نرى تحسنًا ملحوظًا فى معدلات التضخم، متوقعًا استمراره فى الانخفاض حتى نهاية العام الحالى، وعلى مدار العام المقبل للوصول لمستويات أقل من ١٠٪.
وأشار «السيد» إلى أن تلك العوامل ستنعكس بوضوح على مستويات الثقة الخارجية فى الاقتصاد المصرى، ما ظهر جليًا فى الانخفاض الكبير فى تكلفة التأمين على الديون المصرية، بعد أن بلغت مستويات قياسية فى بداية العام، ما يعنى أن هناك ثقة متزايدة فى الأوضاع الاقتصادية وقدرة مصر على سداد ديونها، وبالتالى ستتمكن الدولة قريبًا من خفض معدلات الفائدة للعودة لسوق الدين العالمية.
وتوقع الخبير الاقتصادى أن يحدث ذلك مع بداية العام الجديد مع عودة مصر لمؤشر جى بى مورجان للسندات، إذ إن المتابع للتقارير الدولية فى الفترة الأخيرة سيجد تحولًا جذريًا فى رؤية المؤسسات الدولية وبنوك الاستثمار العالمية للاقتصاد المصرى بعد أن أصبحت صيغة التفاؤل هى الغالبة على التقارير.
وأوضح أن هذا التحول الجذرى فى دفة الاقتصاد يجب أن يعقبه استغلال لتلك الفرصة والحجم المتزايد من الثقة الخارجية فى العمل على تأسيس أطر اقتصادية تنافسية قادرة على خلق مصادر لإيرادات دولارية مستدامة، تساعد الاقتصاد فى التغلب على الأزمات الاقتصادية العالمية.
وناشد ضرورة الإسراع فى وضع خطط زمنية لتطوير قطاعات التصدير والسياحة وقناة السويس والاستثمار الأجنبى المباشر، التى يمكن لها خلال سنوات قليلة أن تضيف ما لا يقل عن ١٠٠ مليار دولار للاقتصاد المصرى.
تقوية الاحتياطى النقدى.. والإبقاء على تحويلات الخارج فى المسار الشرعى
فسّر الدكتور محمد عبدالهادى، المحلل الاقتصادى، الطفرة الكبيرة فى الإيرادات الدولارية وتراجع الدين الخارجى بهذا الحجم بنجاح الدولة فى مجموعة من القرارات الاقتصادية التى انعكست على مؤشرات الاقتصاد، أهمها إيجاد سعر صرف مرن للعملات الأجنبية، مع رفع سعر الفائدة لامتصاص السيولة من الأسواق للسيطرة على التضخم.
وأوضح أن السياسة النقدية التشددية أصبحت توجهًا عالميًا بسبب انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصادات العالم، والاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة التى سجلت معدل تضخم ٩.١٪.
وقال إن مصر رفعت سعر الفائدة لتسيطر على معدلات التضخم بعد أن وصل إلى مستويات قياسية، إضافة إلى هروب ٢٠ مليار دولار من الأموال الساخنة بسبب الحرب الروسية والتوترات الجيوسياسية فى محيط الشرق الأوسط.
وأشار إلى أن تراجع إيرادات قناة السويس بسبب التوترات السياسية فى المنطقة والتأثير السلبى للحرب على غزة على السياحة، وتراجع تحويلات المصريين فى الخارج بسبب اختلال سعر الصرف- كلها عوامل سلبية دفعت الدولة إلى اتخاذ عدة إجراءات اقتصادية حاسمة.
وأضاف أن صفقة «رأس الحكمة» التى ضمنت للدولة الحصول على ٣٥ مليار دولار كانت بمثابة قُبلة الحياة للاقتصاد المصرى ومؤشراته لدى المؤسسات الدولية، مثل «فيتش» التى غيرت النظرة من سلبية إلى إيجابية، وكذلك زيادة الاحتياطى النقدى المصرى، ورفع قيمة القرض من صندوق النقد الدولى من ٣ مليارات إلى ٨ مليارات.
وشدد المحلل الاقتصادى على أن تلك الإجراءات أعطت ثقة كبيرة للاقتصاد المصرى، وأسهمت فى عودة تحويلات المصريين فى الخارج إلى معدلاتها الطبيعية، وتحسن الاحتياطى النقدى، وخفض إجمالى الدين العام الأجنبى للدولة.
هانى جنينة: صفقة رأس الحكمة عامل مهم
قال هانى جنينة، المحلل الاقتصادى والخبير المصرفى والمحاضر بالجامعة الأمريكية، إن تراجع حجم الدين الخارجى بشكل كبير والزيادة الواضحة فى الاحتياطى النقدى، ليسجل أعلى مستوياته على الإطلاق، سببه ٣ عوامل تتمثل فى: صفقة «رأس الحكمة»، إضافة إلى أن بعض الاستثمارات المترتبة على مشروع «رأس الحكمة» عبارة عن ديون جرى تحويلها إلى استثمارات إماراتية، الأمر الذى أسهم فى خفض الدين الخارجى لمصر، خاصة أن أى ودائع لدى البنك المركزى تصنف ضمن الدين الخارجى المستحق على مصر، علاوة على تراجع عجز ميزان المعاملات التجارية.
تعزيز التدفقات الدولارية إلى البنوك
رأى محمود عطا، المحلل الاقتصادى، أن الحكومة المصرية بدأت فى اتخاذ خطوات إيجابية للغاية فى خفض الدين الخارجى، خاصة مع ارتفاع صافى الأصول الأجنبية ليحقق فائضًا بنحو ١١.٤ مليار دولار.
ورأى أن هناك عدة عوامل دعمت وعززت من قدرة الحكومة على خفض الدين الخارجى وزيادة صافى الأصول الأجنبية، أبرزها: تحرير سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار، الأمر الذى عزز الاستثمارات الأجنبية والعربية داخل مصر، إضافة إلى إبرام صفقة «رأس الحكمة» بحصيلة تجاوزت الـ٣٥ مليار دولار.
وأشاد بقدرة الحكومة على القضاء على السوق الموازية للدولار، الأمر الذى عزز من زيادة التدفقات الدولارية إلى البنوك المصرية، وجعل عجز صافى الأصول الأجنبية يتلاشى تدريجيًا حتى وصلت الأصول الأجنبية إلى فائض تجاوز الـ١٠ مليارات دولار، كما أسهم فى تحسن منحنى العائد على سندات مصر الدولارية.
الحفاظ على مكتسبات «الإجراءات التصحيحية»
شدد الدكتور وليد جاب الله، الخبير الاقتصادى، على أن تراجع الدين العام الخارجى لمصر كان متوقعًا فى ظل ما قامت به الحكومة من إصلاحات هيكلية للاقتصاد، مشيرًا إلى أن تراجع الدين الخارجى بهذا الرقم خلال فترة وجيزة يمثل حدثًا تاريخيًا.
وقال الخبير الاقتصادى إن مصر سددت ما يزيد على ٢٥ مليار دولار استحقاقات الديون خلال العام الحالى، ما يؤكد قوة ملاءة الدولة وسياستها الجيدة لإدارة الملف، متوقعًا استمرار تراجع الدين بعد الإجراءات التصحيحة التى قامت بها مصر، من بينها توقيع اتفاقية «رأس الحكمة»، وتغطية الفجوة التمويلية، والقضاء على السوق السوداء للعملة، وتدبير تمويلات تجاوزت ٦٠ مليار دولار تغطى احتياجات مصر الدولية حتى نهاية ٢٠٢٧.
وأضاف «جاب الله» أن ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج، وزيادة حجم التنازلات عن العملات الأجنبية، وعودة الثقة فى الاقتصاد، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وارتفاع الاحتياطى النقدى الأجنبى- كلها مؤشرات إيجابية على قوة الدولة، وهناك خطة لتخفيض الدين العام، سواء الخارجى أو الداخلى، بنسبة ٨٠٪ خلال ٣ سنوات، والتراجع الأخير بداية جيدة لتنفيذ هذه الخطة.
استمرار خفض معدلات التضخم
أكد عمرو الألفى، رئيس استراتيجيات الأسهم لدى إحدى شركات تداول الأوراق المالية، أن هناك أكثر من عامل أسهمت فى التراجع التاريخى للدين الخارجى لمصر، أبرزها صفقة «رأس الحكمة». وقال إن تلك النتيجة كانت متوقعة بعد تراجع حجم الديون المصرية الخارجية، بسبب الاستثمارات الواردة لمصر، خاصة الودائع التى جرى تحويلها إلى استثمارات وتقدر بأكثر من ١١ مليار دولار، وهو مؤشر فى غاية الإيجابية.
وعن السياسة النقدية، أكد «الألفى» أن البنك المركزى سيستمر فى اتباع سياسة تشددية لحين انخفاض معدلات التضخم للأرقام والمعدلات المستهدفة، مؤكدًا أن صفقة «رأس الحكمة» هى النواة التى أسهمت فى تحقيق تلك الطفرة، وقد تستمر إذا ما استمرت سياسة الدولة فى جذب المزيد من الاستثمارات.