العيال فهمت
على مسرح ميامى ومن إنتاج البيت الفنى للمسرح، فرقة الكوميدى، نسخة حديثة من فيلم «صوت الموسيقى» الحائز على ٥ جوائز أوسكار وعشرات الترشيحات، الذى اعتمد على مسرحية استلهمتها إحدى الفرق الغنائية من مذكرات راهبة نمساوية تدعى ماريا فى خمسينيات القرن الماضى تحمل نفس الاسم، ولعل الأهم من أن تكون لديك فكرة، حتى لو كانت مقتبسة، أن تعرف كيف تحكيها، فتتجاوز فى نسختك المبتكرة روعة وفرادة النص الأصلى. تقول الحكاية إن عاصم «رامى الطنبورى» ضابط طيار توفيت زوجته وتركت له ٨ أبناء، اعتمد فى تربيتهم على نظام صارم يراعى الدقة والأصول من وجهة نظره، مستعينًا بأحد أقاربه زكريا «عبدالمنعم رياض» الذى يراعى الأبناء دون خبرات كافية فيلتزم بتنفيذ تعليمات الأب، غير أنه أكثر خفة وحنانًا، بل دراية بمشكلاتهم وكذلك مواهبهم وأحلامهم.
لكن عاصم يرتاب فى التقارير التى يدونها زكريا وخاصة حين يعود فجأة من رحلة طيران تعطلت بسبب سوء الأحوال الجوية، فيفاجأ بالفوضى التى تضرب البيت وكذلك بالتقديرات والنتائج السيئة التى بات عليها أبناؤه، وبعد مواجهة شرسة مع زكريا يطلب إليه عمل إعلان للبحث عن مُربية تنقذ أولاده من مصير مجهول، وبعد اختبار عشرات المتسابقات للحصول على الوظيفة دون العثور على المربية التى يرجوها، وبعد انتهاء الموعد، تدخل نغم «رنا سماحة» صالة البيت الفارغة، ومع أول خطوة فى صعودها السلم المؤدى إلى غرف الأبناء نلاحظ إضاءة كل درجة تخطوها فى إشارة تبشر بتغيير محتمل، يظهر الأبناء تباعًا ثم زكريا وعاصم الذى يرفضها كونها لم تلتزم بموعد المسابقة وهو ما يتنافى مع حرصه على دقة المواعيد، لكن زكريا الذى أعجب بنغم يحاول إثناءه عن طردها وينجح فى إقناعه بمنحها فرصة ربما يجد فيها ضالته.
يتذمر الأبناء فى البداية، ويعترضون على جلوسها فى مقعد الأم الخالى والمنكسر دائمًا كأنما انكفأ على الفقد، فقط يسمحون لها بمقعد إضافى يبتعد بمسافة مناسبة عن السفرة، كل شىء محتمل إلا مقعد الأم، رويدًا تقترب نغم من الأبناء وتستطيع مع الوقت كسب ثقتهم، ومن ثم التعرف إلى هواياتهم وأحلامهم الحقيقية التى طمستها صرامة الأب، ذلك المتجهم دائمًا الذى لا يدرى أنه هو أيضًا قد صودرت مواهبه وأحلامه. تبدأ نغم فى تدريبهم على السلم الموسيقى وتكتشف سلامة حواسهم وحسن أصواتهم، فتبدأ فى تعديل وتقويم مواهبهم وتستبعد تبنى بعضهم الغناء دون المستوى كالمهرجانات وغيرها من فن يسود ويفسد الوجدان والذائقة، وتستعيد معهم حلمها فى غناء مقطوعة ألفها ولحنها والدها منذ سنوات بعيدة، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى عندما يعترض الأب على تهاونها فى أداء وظيفتها ويطردها على غير رغبة من أبنائه الذين تعلقوا بها.
يذهب الأب فى رحلة عمل وأثناء غيابه يقرر الأبناء الذهاب إلى نغم والاشتباك مع حلمها الذى بات حلم الجميع، وبالفعل يتدربون بدأب وإصرار ويخوضون معها مسابقة غنائية يحضرها زكريا الذى تضامن معهم ونفاجأ بحضور الأب أيضًا الذى يتأثر بإبداع أبنائه وكأنه يكتشفهم للتو فيرق قلبه لهم ولنغم بالتبعية ولزكريا أيضًا، لكن فرقة نغم تصدمها نتيجة المسابقة لعدم فوزهم بها فيحبطون وينهارون تمامًا، لكن عاصم يذكرهم بأغنية سمعها ذات مرة منهم ويبدأ فى ترديدها وحثهم على استكمال أحلامهم وأن الخسارة فى جولة لا تعنى نهاية العالم فلا تزال أمامهم جولات قادمة، يدب الحماس فى عقول وأبدان الأبناء فيلتفون حوله تصحبهم نغم ويرحبون بها أخيرًا على مقعد الأم.
والحقيقة أن رؤية وإخراج الموهوب «شادى سرور» أسهمت بشكل ملحوظ فى تجسيد دراما العمل من خلال استغلال كل بقعة من خشبة المسرح، واستعمال كل الأبعاد فى جرأة مذهلة فى التعامل مع الفراغ، واستثمار السينوغرافيا فى تعميق المحتوى وإكسابه دلالات عديدة، المقعد الفارغ كمثال ودرجات السلم التى أضاءت بمجرد وقع خطوات نغم، وكذلك فى مونولوج الأب وتبدل الصور واللوحات التى تزين الجدران وقد أصبحت كلها عبارة عن أطر حديدية باهتة تملؤها صورته الشخصية تلك المتجهمة الصارمة.
كما جاءت حلول الديكور طيعة ومرنة فى تشكلها وتبدلها وتقسيم خشبة العرض إلى مستويات تتضمن شرفة ونافذة وأبواب تسهل حركة الممثلين، مع إضاءة محمود الحسينى الذكية والناجزة. والملابس أيضًا كانت موفقة وموحية، حيث الزى الموحد طوال الفصل الأول والمتنوع أحيانًا وتحديدًا فى الفصل الثانى، فصل التمرد واقتناص الحرية، وقد نفذتها بمهارة فائقة شيماء محمود، التأليف والصياغة الشعرية «طارق على» الذى ينضج بوعى درامى مع كل عرض جديد، جاءت رائعة ومكثفة دون إسهاب أو ترهل وبسيطة كالماء، وقد شاركه أحمد الملوانى. أما النابغة أحمد الناصر فقد تعامل بذكاء ورشاقة مع المشاهد المغناة واستطاع أن يميز كل شخصية بتيمة مميزة وتنوعت موسيقاه بين الكلاسيك والمودرن وحتى فى تعامله الحذر مع المهرجانات. كما جاءت الرقصات مبهجة وناعمة بلا تزيد يذكر، وحرى بنا أن نثمن جهد دارين وائل فى تدريب ممثلين غير محترفين لفنون الرقص، فبدوا كما لو كانوا أفرادًا فى البلشوى. هذا العرض المبهر فى زمنه الطويل نسبيًا دون ملل يذكر تتركه ولا يتركك دون أن تستغرق فى متعته ودلالاته، وتقديرى أن مقولته تمحورت حول قيمة أساسية تنتصر لقدرة القوى الناعمة فى تبديل الواقع، وأن التمرد صنيعة الغضب لكن التغيير صنيعة الوعى، وأخيرًا لا يفوتنا أن نحيى الفنان القدير مدير الفرقة ياسر الطوبجى على اختياره ومباركته ورعايته، وبالضرورة نحيى فريق الممثلين وحسب الظهور: محمد على، نور شادى، جيسى أسامة، أحمد هشام، عبدالمنعم رياض، رحيم رزق، ندى محمد، روضة عز العرب، وفاكهة العرض الطفل على شادى، رامى الطنبورى، إيهاب شهاب، رانيا النجار، أميرة فايز، منة الحسينى، رنا سماحة، سعيد محمد، محمود الهنيدى، وكل من شارك فى هذه الدراما الموسيقية الرائعة.