إسرائيل توسِّع الحرب.. وروسيا تدخل على الخط
سبق لجماعة الحوثى اليمنية أن هاجمت إسرائيل لنحو مائتى مرة، فى ميناء إيلات وغيره، كما ذكر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف جالانت، إلا أن الطائرة المُسيَّرة «يافا»، التى اخترقت وسائل الكيان الدفاعية، وأصابت تل أبيب، كأنما أصابت قلب إسرائيل فى عاصمتها الاقتصادية، ونالت من الكبرياء الصهيونى، وقللت من شأن قدرته على الدفاع عن نفسه، مما أصاب بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، بالجنون، وقرر شن هجمة جوية على اليمن بعشرين مقاتلة، متنوعة الطرازات، ضربت ميناء الحديدة ومستودعات النفط، وبعض المكاتب الإدارية لشركة الكهرباء، وكلها أهداف مدنية، أشعلت وهجًا من النيران، كان نتنياهو فى حاجة إليه، ليرى الآخرون أن ذراع إسرائيل ما زالت طويلة، لتفتح تل أبيب جبهة جديدة، بعيدًا عن دائرة نيرانها التقليدية، التى كانت تتخذ من فلسطين والشام الكبير مسرحًا للهبها المُستعر منذ أكثر من سبعين سنة.. أخذت النار الإسرائيلية طريقها إلى ميناء الحديدة، الذى تسيطر عليه جماعة أنصار الله «الحوثيين»، ليأخذ اللهب الإسرائيلى هذه المرة دفقًا كبيرًا فى تعدد هجماته، التى زادت على عشر ضربات متلاحقة، وفقًا لوسائل إعلام إسرائيلية، زيادة على حجم الإصرار الإسرائيلى على التدمير، ومستوى الانتشاء العالى بما لحق بمنشآت ميناء الحديدة من أضرار.
ولليمن قصة طويلة مع اللهب، وتاريخ لا ينقطع مع الحروب، وبدون النار واللهب لا يأخذ اليمن سمته.. فقد عرفت جباله قصة الدم والثأر الذى لا سقف له، وبين اليمنيين وإسرائيل الآن قصة ثأر وعناد صراع لا سقف لنهايته، على خلفية دعم الحوثيين المقاومة فى قطاع غزة.. وبتناقض الإرادات بين الطرفين، تتعدد رسائل الهجومات المتبادلة، ولا سيما الهجوم الإسرائيلى الأخير، الذى يعتبر الأول بعد مائتى هجوم حوثى- وفقًا لوزير الدفاع الإسرائيلى- كاد أن يعيد تشكيل المنطقة، وأن يُجمد أمواج البحر الأحمر أمام السفن الجارية من إسرائيل وإليها، وبعض حلفائها الغربيين.
ولعل من أبرز الرسائل الإسرائيلية من وراء هذا الهجوم، أولًا: التخويف وإرهاب الإقليم، إذ ركز القصف الإسرائيلى على مخازن الوقود والنفط فى ميناء الحديدة، ليأخذ دخان اللهب مداه، بما يمكن أن يحققه من رعب فى الشرق الأوسط، لا سيما أن «النيران يمكن رؤيتها فى جميع أنحاء الشرق الأوسط»، وفق عبارة وزير الدفاع الإسرائيلى.. ولكن الحوثيين وأنصارهم يؤكدون أن ما لا يدركه الإسرائيليون أن تاريخ اليمن مرتبط باللهب، وأن حجم ما احترق على الأرض اليمنية من قاذفات النار، أضاء مستويات غير مسبوقة من الإصرار اللا متناهى.. وبشكل خاص، فإن سعى إسرائيل إلى إلحاق ما أمكن من ضرر بالمصالح الاقتصادية لليمن، وبالأدوات القتالية للحوثيين، يعتبر هدفًا أساسيًا «لليد الطويلة»، التى اتخذتها إسرائيل اسمًا لحملتها الجديدة.
ثانيًا: استعراض القوة.. وقد كان ذلك لافتًا من حيث ضخامة الطائرات المستخدمة فى القصف، ومن حيث عددها وتنوعها أيضًا، حيث سخرت إسرائيل أسطولًا جويًا كاملًا لتنفيذ العملية.. شاركت فى القصف عشرون طائرة، من بينها قاذفات من طراز إف ـ15، وطائرات شبح إف ـ35، وطائرات حراسة من طراز إف ـ16، بالإضافة إلى أربع طائرات للتزود بالوقود جوًا، كما رافقتها لمسافة معينة بعض المروحيات.. هذه الأسراب العاتية من حاملات النار قطعت 1800 كيلومتر، لتصب حممها ولهبها على منشآت لتخزين الوقود فى ميناء الحديدة، ثم لتترك بعد ذلك ألسنة اللهب، التى تطاول عنان السماء، والنيران المتأججة تتحدث عن نفسها، وتوصل ما تريد حكومة نتنياهو أن تبعثه من رسائل إلى الداخل، وإلى الأطراف الأخرى فى المنطقة، بعد أن تهاوت حالة الردع الإسرائيلى منذ السابع من أكتوبر الماضى.
ومع أن الهجوم الإسرائيلى الجديد جاء بعد يوم واحد، من القصف غير المسبوق الذى نفذه الحوثيون على تل أبيب بطائرة مُسيَّرة، فقد تسابق المسئولون الإسرائيليون للتأكيد- ضمنًا- أن الضربة الجديدة، وإن نفذت على أراض يمينة، إلا إنها تحمل رسائل إلى خارج اليمن، كما اتضح ذلك من تصريحات نتنياهو ووزير الدفاع، بينما شارك رئيس الكنيست الإسرائيلى، أمير أوحانا، على السوشيال ميديا، صورة الحرائق فى الحديدة، قائلًا: «هذه رسالة لكل الشرق الأوسط».
ثالثًا: إظهار قوة إسرائيل، حيث حرص مسئولون إسرائيليون على التأكيد، لوسائل إعلام إسرائيلية وأمريكية، أن قصف اليمن كان تنفيذًا إسرائيليًا خالصًا، ودون مشاركة أمريكية أو غربية، لتظهر بذلك لحلفائها وللداخل الإسرائيلي أنها ما زالت قوية وقادرة على حماية نفسها، بل والحرب خارج حدود «لهبها التقليدى».. وبما أن العملية الإسرائيلية تمثل أول رد على واقع عسكرى فرض الحوثيون تفاصيله، فقد أرغمت الهجمات الحوثية المستمرة منذ شهور، إسرائيل على أن تكون فى موقع الدفاع عن النفس، وهى التى طالما مارست عدوانها على بلدان عربية متعددة، ما زالت بدورها تحتفظ لنفسها بحق الرد.
رابعًا: ما حدث رسائل للنظام الإيرانى الجديد الذى سيتسلم مهامه بعد فترة قليلة، تؤكد أن تل أبيب ما زالت خصمًا عنيدًا وقادرًا على إثارة مزيد من اللهب فى شط العرب وفارس على حد سواء، سيما أن الهوى والسلاح الحوثى إيرانيان وبجدارة، كما تزعم إسرائيل باستمرار، وحرصت على التأكيد عليه اليوم فى تصريحات مسئوليها عقب العملية... وأخيرًا، وبين رسائل اللهب المتعددة، تحاول إسرائيل ترميم ما أمكن من صورتها المحترقة داخليًا، وإعادة شىء من التوازن إلى حرب فرض الحوثيون فى أغلب ما مضى محطاتها، وأطرافها، وزمانها، واختاروا لها من الأمكنة دائمًا ما يحطم أسطورة الجيش الذى لا يُقهر، والقبة الحديدية التى لا تُختَرق، والعاصمة التى كانت فى الفترة التى سبقت طوفان الأقصى، إحدى أكثر عواصم الشرق الأوسط أمنًا، وإن كانت أيضًا الأكثر تصديرًا للموت واللهب، وربما أصبحت الأكثر استيرادًا له منذ عدة أشهر.
إذًا، نحن إزاء توسيع لبقعة الصراع فى الشرق الأوسط، بل ربما اتسعت أكثر لمواجهة غير مباشرة بين أقطاب دولية كبرى، تستخدم بؤر الصراع فى المنطقة، لتزيد اللهيب اشتعالًا.. وأذكر أن الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، قال فى يونيو الماضى، إن سياسة البيت الأبيض تجاه أوكرانيا، والسماح لكييف باستخدام أسلحة الناتو بعيدة المدى فى ضرب العمق الروسى، يمكن أن تدفع موسكو إلى تسليح خصوم الولايات المتحدة.. وقالت وكالات الاستخبارات الأمريكية إن روسيا قد ترسل صواريخ متطورة مضادة للسفن إلى الحوثيين فى اليمن، ردًا على دعم واشنطن أوكرانيا، حسبما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، نقلًا عن مسئولين أمريكيين.. فى حين قال البيت الأبيض إنه يعمل على ثنى بوتين عن عزمه الدفع بصواريخ للحوثيين، حيث يقول قائد القيادة المركزية الأمريكية، إريك كوريلا، إن ضربات قوات «حارس الازدهار» فى اليمن «فشلت» فى منع الفوضى فى البحر الأحمر.. وحذر من أن العمليات التى تقودها الولايات المتحدة «تفشل» فى منع هجمات الحوثيين على البحر الأحمر.. وفى رسالة سرية إلى وزير الدفاع الأمريكى، لويد أوستن، ورد أن كوريلا دعا إلى عمل عسكرى أقوى وغير محتمل، وتجنيد «الحكومة الأمريكية بأكملها»، لزيادة الضغط الدبلوماسى والاقتصادى على الحوثيين، لأن، من وجهة نظر كوريلا، «أفراد الخدمة الأمريكية سيموتون، إذا واصلنا السير فى الاتجاه الحالى».
ومع أنه لن يتم التأكد، حتى الآن، من أن روسيا لم تنقل أى صواريخ إلى الحوثيين، لكن ممثلى الحوثيين شوهدوا فى موسكو، ويمكن نقل الأسلحة من روسيا إلى اليمن باستخدام طرق التهريب الإيرانية.. لذلك، يقوم البيت الأبيض بحملة دبلوماسية، من خلال دولة ثالثة، لثنى روسيا عن نقل الأسلحة.. وقد ذكر موقع «ميدل إيست آى»، فى يونيو الماضى، أن المملكة العربية السعودية تحدثت مع روسيا بشأن تقديم موسكو صواريخ كروز مضادة للسفن للحوثيين.. ومع ذلك، تُقدِّر أجهزة الاستخبارات الأمريكية أن موسكو تجدد مساعيها لتسليح الحوثيين، بعد أن وافق البيت الأبيض على استخدام كييف أسلحة أمريكية الصنع لضرب أهداف داخل روسيا، و«لا يزال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يفكر فى تسليح الحوثيين» بأسلحة، يرى المحللون أنها «ستمثل قفزة نوعية» فى قدرات الحوثيين، خصوصًا لو تم تزويدهم بصواريخ كروز، لضرب حاملة طائرات أمريكية فى عرض البحر الأحمر، من جماعة ليس لديها ما تخسره، إذا أرادت واشنطن الرد على ذلك، بعد أن تكون سمعتها العسكرية قد تلطخت بالعار.
وتقوم إيران، حاليًا بتزويد الحوثيين بالكثير من الذخائر.. وقال الجيش الإسرائيلى إن الطائرة بدون طيار التى أطلقها الحوثيون وضربت تل أبيب يوم الجمعة الماضى، مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة عدة أشخاص آخرين- كانت إيرانية الصنع.. بل إن مئات الصواريخ الحوثية، وقاذفات الصواريخ والطائرات الهجومية بدون طيار، بالإضافة إلى عشرات منشآت التخزين والعديد من مراكز القيادة وأنظمة الدفاع الجوى والرادارات والمروحيات، التى تمثل قدرًا كبيرًا من قدرة الحوثيين، التى دُمرت فى الضربات التى تقودها الولايات المتحدة، كانت إيرانية.. ومع ذلك، انتقد بعض المسئولين الأمريكيين سياسة واشنطن فى البحر الأحمر، بعد أن ألحقت هجمات الحوثيين أضرارًا بما لا يقل عن ثلاثين سفينة تجارية، لها علاقة بإسرائيل أو الولايات المتحدة أو بريطانيا، وأغرقت اثنتين.
وردًا على ذلك، ووسط دعوة كوريلا لاستراتيجية أكثر شمولًا ضد الحوثيين، فإن مسئولين فى الإدارة الأمريكية قالوا إن بعض الإجراءات قد اتُخذت بالفعل لاستكمال العمليات العسكرية، وإن الإدارة فى واشنطن طلبت من القيادة المركزية الأمريكية تجميع قائمة أوسع من الأهداف، بما فى ذلك أعضاء حوثيون محددون.. فهل تقدر الولايات المتحدة على احتواء الموقف، أم أن النيران ستزداد اشتعالًا.. ليس فى البحر الأحمر وحده، بل فى كل المنطقة؟.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.