الأكذوبة الكبرى.. مَنْ قال إن الاستعمار صانع حدود مصر؟
المشهد الأول.. «الوطن حفنة من تراب عفن.. طظ فى مصر.. وإيه يعنى لما نعمل شوية خيم لإخواتنا فى سينا.. طب ما ياخدوا حلايب وشلاتين..».
المشهد الثانى.. مجلس النواب المصرى عام ٢٠١٢م.. أعضاء حزب سياسى يرفضون الوقوف تحية للعلم الوطنى والنشيد الوطنى...
المشهد الثالث.. بعد انتهاء مهلة تقنين أوضاع المقيمين فى مصر.. سيل من الأحاديث ذات الصبغة الدينية تملأ آلاف الصفحات وتجد طريقها لحوارات الأشخاص.. ملخصها.. أن الأرض أرض الله.. وأن أى أرض الإسلام هى لجميع المسلمين...
ثم أخيرًا وجدوا صيغة ربما تجد طريقها بسرعة وبسهولة أكثر.. هذه الحدود صنعها الاستعمار، وحدود مصر قد صنعها الاستعمار الإنجليزى.
هذه المشاهد تعبر عن كوكتيل من الأفكار العبثية المتراكمة عبر عقود القرن الماضى. بدأت فى الثلاثينيات مع تكوين جماعة الإخوان متزامنة مع بعض الحركات فى دول أخرى تتفق جميعها فى هدفها النهائى بأن تتوحد الدول ذات الأغلبية المسلمة فى دولة واحدة يحكمها حاكم واحد أو دولة خلافة واحدة. ظلت هذه الفكرة تداعب خيال البسطاء ويعمل على غرسها بعض رجال الدين ممن اعتنقوا فكر الجماعة بالحديث الدائم عن مجد الخلافة السابق.
ثم ظهرت فكرة أخرى فى نهايات الخمسينيات وعقد الستينيات تنافس الفكرة الأولى فى هوية الدولة المزعومة المنشودة، وتبنت الفكرة الجديدة تفعيل القومية العربية، واعتبارها الأساس القومى العصرى القابل للتطبيق. فشهدت تلك السنوات عدة محاولات رسمية لتطبيق ذلك بالفعل. وفشل جميعها فى تنفيذ فكرة الاتحاد السياسى بين عدة دول على أساس القومية العربية. ويمكن القول إن هزيمة يونيو قد مثلت نهاية هذه الفكرة وأحبطت الذين آمنوا بها من شعوب هذه الدول. بعد الهزيمة بدأت مصر تستفيق وتتحسس الطريق الصحيح والمنطقى والواقعى والمتسق مع حقائق التاريخ. وحققت انتصار أكتوبر بشكل أساسى اعتمادًا على العنصر أو القومية المصرية لتحرير الأرض بالتنسيق العام مع «بعض الأشقاء». وكانت اتفاقية السلام المصرية هى البداية الحقيقية لعودة الدولة المصرية لهويتها الوطنية.
ثم شهدت العقود التالية لهذا النصر المحاولات العبثية الدموية للوصول لتحقيق الفكرة فى صورتها الدينية على أيدى أعضاء الجماعات الدينية التى قررت تنفيذ ما كانت تنادى به وصاغته للمرة الأولى فى مصر جماعة الإخوان فى الثلث الأول من القرن الماضى. أربعة عقود كاملة أجهدت خلالها تلك الحركات دولها واقتصادها وعلى رأسها مصر، حتى كان الصدام الأكبر بين فكرة الدولة الوطنية المدنية فى مواجهة خزعبلات جماعة الإخوان وباقى الجماعات، وانتهى الصدام بحسم المصريين اختيارهم بالدفاع عن دولتهم الوطنية التاريخية وشكلها وهويتها المدنية. بعد مرور سنوات على هذا الحسم، وبسبب ما جرى فى المنطقة سواء انهيار دول مجاورة وتفككها وفرار ملايين من سكانها، أو أحداث قطاع غزة، عادت تلك الأفكار لمحاولة خداع المصريين والتغرير بهم من جديد، وذلك بمحاولة إقناعهم بأكذوبتين، الأولى أن حدود مصر- شأن باقى الدول العربية- قد خطتها يد الاستعمار فى القرن العشرين. والأكذوبة الثانية التى رأوا أنها ربما تصلح لتكون بديلًا عن الأولى- حين يثبت كذبها- أن الحدود مجرد تراب، وأن الأصل هو الدولة الواحدة سواء على خلفية دينية أو عرقية عربية.
أعتقد دائمًا أن أحد الأسباب الرئيسية فى سقوط البعض فى الفخ تلو الفخ هو أن كثيرًا منا كمصريين نجهل تاريخ بلادنا منفردًا، ثم مقارنًا بتاريخ البلدان الأخرى المجاورة. نعم لقد وقعت مصر فى شباك الاحتلال الغربى فى العصر الحديث شأنها شأن باقى الدول فى الشرق الأوسط. ونعم قد قام الاحتلال الغربى- الإنجليزى بشكل خاص- بخط حدود دول، وخلق دول أخرى جديدة لم تكن قائمة، وحدث ذلك بعد الكشف عن هذا المورد العملاق أو مصدر الطاقة التقليدى الأول فى العصر الحديث.
لكن هذا لا ينفى حقيقتين، الأولى أن بعض تلك الدول بالفعل لم تكن قائمة كدول مستقلة فى أى عصر تاريخى سابق لهذا الاحتلال لأن فكرة الدولة بمعناها المعروف لم تكن حاضرة هناك قبل ذلك لأسباب كثيرة منها الطبيعة الجغرافية والطبيعة القبلية، وربما لو لم يظهر مصدر الطاقة هذا لاستمرت تلك القبائل فى الحياة فى صورة تتناسب مع تلك الطبائع، وفى أقصى تقدير ربما لقامت بعض الإمارات على مساحات صغيرة جدًا تحكمها بعض العائلات. ففى هذه الحالة نعم الاستعمار هو صانع وخالق بعض الدول وحدودها فى المنطقة العربية.
أما الحقيقة الثانية فهى التى تخص مصر التى وقعت تحت الاحتلال لعصور طويلة، لكن مصر وقبل احتلالها كانت بالفعل دولة قائمة مستقلة ذات حدود وذلك وعلى أقل تقدير منذ خمسة آلاف عام. حدود مصر الأولى هى قرار إلهى اتخذ شكل الحدود الطبيعية بحرًا شرقًا وشمالًا، وصحراءً جنوبًا وغربًا. أما الحدود السياسية البشرية فقد صنعها المصريون لأول مرة بأنفسهم وبأيديهم، ويمكن القول إنها أقدم حدود سياسية عرفها التاريخ. فلقد بنى المصريون بالفعل نقاطًا حدودية شرقًا منذ الأسرة الثالثة فى القرن ٢٨ قبل الميلاد، وذلك لحماية مصر من غارات القبائل البدوية البدائية. وأقاموا سلاسل من الحصون الحدودية جنوبًا تمتد من أسوان وحتى شمال السودان على الأقل منذ القرن ٢٠ قبل الميلاد، وأطلال بعضها ما زالت قائمة.
لذلك كانت هناك مصر بحدود طبيعية وحدود سياسية بشرية صنعها المصريون قبل أن يحتلها الهكسوس- أول احتلال أجنبى لمصر- بما يزيد على اثنى عشر قرنًا. وحين انهارت دولة مصر المركزية وفرطت فى قواتها المسلحة- فيما يُعرف بالعصر المتأخر منذ القرن العاشر قبل الميلاد- وتسلل إلى تلك القوات المرتزقة من عدة جنسيات «يونانيون- سوريون- رومان- ليبيون- يهود»، وقعت مصر تحت الاحتلال تلو الاحتلال. وكان المحتلون دائمًا طامعين فى دولة قائمة بالفعل ذات حدود وذات كيان ومؤسسات قائمة وموارد اقتصادية هائلة.
أما ما يخص مصر فى كل ما يثار من دعايات عن دولة الخلافة الموحدة، فالتاريخ يقول صراحة إن الغزو العربى لمصر قد حدث ومصر فى ذروة رخائها الاقتصادى حسبما قال عمرو بن العاص ذاته حين قدم للخليفة عمر بن الخطاب أسبابه لفكرة غزو مصر. كانت فى ذروة رخائها رغم معاناة شعبها. كانت مستعمرة بيزنطية فاحتلها العرب وشكلت لهم- كما شكلت لمن سبقهم فى غزوها واحتلالها- مصدرًا اقتصاديًا مهمًا. فمصر كدولة أو كيان لم تصنعها الخلافة.
كل غزوات العرب خارج الجزيرة كانت سياسية لتكوين دولة كبرى يحكمها العرب تحت راية الإسلام، لكن مصر كانت قائمة بالفعل. فى جميع فترات ما يسمى بالحكم الإسلامى كانت ولاية مصر قائمة بذاتها ولها أهمية كبرى وأحيانًا كثيرة كانت مطمعًا للصراع على تولى منصب الوالى بها بين أمراء البيت الحاكم ذاته. وكانت مطمعًا لبعض الولاة، وخاف الخلفاء أن يستقل بها أحدهم، حتى حدث ذلك بالفعل فيما يسمى بعصر الدول المستقلة «طولونية- إخشيدية- فاطمية- أيوبية...»، مما يؤكد أن فكرة استقلال مصر وتفردها بحدودها التى صنعها المصريون كانت قائمة دائمًا ولآلاف السنوات قبل الاحتلال فى العصر الحديث.
أما إمارات الحجاز والشام والعراق فلها قصة أخرى تختلف تمامًا عن تاريخ مصر. لم يكن لأى منها ذلك الثبات فى الحدود والشخصية السياسية المستقلة، لأنها باختصار كانت المصب الذى تصب فيه هجرات القبائل العربية من جنوب الجزيرة العربية شمالًا وذلك قبل الإسلام بقرون طويلة، أى إن الطبيعة القبلية كانت هى السائدة حتى فى الشمال حيث قامت حضارات متقدمة مقارنة بالجنوب.
لذلك، فإن أردنا إنصافًا علميًا، يمكن قبول هذه العبارات الخاصة بفكرة صناعة الاستعمار للحدود على ذلك الجزء الآسيوى من الدول العربية. فعلى سبيل المثال فلسطين كانت تسمى ولاية جنوب سوريا. وكل الشام وبلاد الرافدين كانت تتصارع على حكمها دول وممالك مختلفة عربية وهندو أوروبية. وهناك خلق الاستعمار الحديث الحدود والدول، وأى قراءة عابرة لتاريخ أى دولة تخبرنا بهذه الحقيقة. هناك ثبات فى بعض المناطق الصغيرة، بمعنى استمرار وجود قبيلة معينة منذ تاريخ معين فى بقعة صغيرة بذاتها، لكن لم تكن هناك فكرة الدولة الواحدة التى تتميز بعدم انقطاع تاريخى وحضارى.
هذا عن التاريخ السياسى، أما عن الفكر الدينى الضال فيتلخص فى توقف عقول البعض عن مرحلة تاريخية اسمها الخلافة، وهى فى الحقيقة عبارة عن إمبراطورية مثل باقى الإمبراطوريات قامت وازدهرت ثم زالت، ومحاولة تديينها ليست إلا عبثًا خالصًا يناطح التاريخ وكل علوم السياسة. فكرة إنشاء إمبراطورية تجمع الدول ذات الغالبية الدينية الواحدة هى فكرة تجاوزها الزمن.
وبقايا متطرفى الفكر القومى العربى والذين لا يزالون يؤمنون بإمكانية توحد الدول العربية سياسيًا فى كيان واحد، فهؤلاء يتجاهلون حقيقة بسيطة لكنها هامة.. فلو كانت هذه الفكرة ممكنة لنجحت وتحققت قبل الإسلام، ولقامت دولة كبرى تجمع قبائل العرب. لكن هذا لم يحدث وعدم حدوثه منطقى تمامًا لأن اللغة وحدها وتوحد العرق القبلى الأصلى القديم وحده لا يكفيان لإقامة دولة موحدة. فمثلًا اليهود ساميون كالعرب ولغتهم من نفس منبع اللغات السامية، لكنهم ظلوا دائمًا فى صراع مع أبناء عمومتهم الساميين. وحتى بعد قيام تلك الدول ظلت المواءمات القبلية حاكمة للحراك السياسى والمجتمعى وهذا ليس عيبًا، فهو طبيعة بشرية ولكل مجموعة الحق فى اختيار الصيغ المناسبة للحياة والحكم.
لكن العيب والخطأ هو محاولة تعسف قابلية فكرة ضم من قامت دولتهم على مفردة الأرض منذ آلاف السنين بجوار من يعلون الراية القبلية أساسًا. فمصر دولة تقوم على فكرة الأرض وشعبها شديد الالتصاق بهذه الأرض وشديد الولاء لها، ومهما حدث فلن يزاحم هذا الولاء فى روح المصرى أى ولاء آخر. فالفكرة التى يريدون ترويجها كالمعادلة الكيميائية الفاسدة مهما أعيدت المحاولات ستكون النتيجة واحدة وستتنافر عناصرها. إن الذين يطلقون هذا الحديث- سواء من منطق دينى أو عروبى- بين المصريين غالبًا يعرفون ذلك تمامًا ويدركون عدم إمكانية تحقيق خزعبلاتهم. لكنهم يبثون هذه الدعايات لهدف واحد هو محاولة تفكيك فكرة الهوية المصرية الوطنية، خاصة أن هناك استنفارًا شعوريًا بين المصريين الآن دفاعًا عن تلك الهوية. كما يريدون تشويش الأجيال الصغيرة الذين يستقى كثير منهم معلوماتهم وثقافتهم من صفحات السوشيال ميديا. فنعلم أبناءنا هذه الحقيقة.. حدود مصر صنعها المصريون وسوف تبقى قائمة ما بقيت هذه الحياة. ولا شأن لنا بمن خلق الاستعمارُ حدودَهم أو دولهم.