الاستشراق هيمنة مستمرة
استهداف مصر وتاريخها من قبل القوى الاستعمارية ليس جديدًا، الجديد هو تواطؤ مراكز الأبحاث مع صناع القرار لتزييف الحقائق، ونادرًا ما يبزغ نجم غربى متعاطف مع قضايانا، وللأسف الشديد يوجد بيننا من يروج لأفكار تنال منا، فقط لأنها جاءت من علماء فى جامعات مشهود لها بالصرامة العلمية، كتبت قبل أسبوعين عن نعوم تشومسكى، المفكر الأمريكى، ودوره فى فضح السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط وانحيازها للمستعمر الإسرائيلى، واليوم أكتب عن بيتر جران بمناسبة صدور كتابه «الاستشراق هيمنة مستمرة» الذى صدر مؤخرًا عن المركز القومى للترجمة وقامت بترجمته سحر توفيق، و«جران» هو أستاذ التاريخ المصرى الحديث بجامعة تمبل الأمريكية، واشتهر بكتابه «الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر١٧٦٠-١٨٤٠»، الذى أحدث ضجة عند صدوره فى منتصف الثمانينيات وترجمة المؤرخ الكبير الدكتور رءوف عباس حامد، ويعد من أبرز المفكرين اليساريين فى أمريكا، كما أن مؤلفاته لها ارتباطات وثيقة بالثقافتين العربية والإسلامية، وله نظريات انتصرت للحضارة المصرية وعمق تأثيرها على العالم، وخالف الموقف الفكرى للمستشرقين فى أمريكا، ويحكى الدكتور عاصم الدسوقى فى مقال نشرته له مجلة الثقافة الجديدة عن موقف شهده بنفسه فى جامعة شيكاجو التى أعلنت عن وظيفة مدرس تاريخ سنة ١٩٧٨، فتقدم «جران»، وبعد فرز أوراق المتقدمين تمت تصفيتهم إلى اثنين بينهما بيتر، وطبقًا للتقاليد المتبعة هناك عند التعيين، يقوم المرشح بإلقاء محاضرة أمام الطلاب فى حضور أعضاء القسم، كانت محاضرة «جران» حول سياسات محمد على باشا فى مصر والمنطقة العربية، وكانت محل إعجاب الطلاب، أما المرشح الثانى فكانت محاضرته التى انتهجت منهج الاستشراق حول التعصب الدينى بين المسيحيين والمسلمين فى مصر، وعلى أساسها تم اختياره واستبعاد «جران»، ويحكى الدسوقى أن أحد أعضاء المجلس قال له إن الطالب الذى يأتى من مصر، أو أى بلد عربى، إلى أمريكا للدراسة يتحوّل إلى مستشرق، أما بيتر الذى جمع مادته العلمية من مصر أصبح شرقيًا وليس مستشرقًا، بالطبع ترك «جران» شيكاجو وبحث عن عمل إلى أن قبلته جامعة تمبل، أول كتب «جران» كان عن الشيخ حسن العطار من عصر الحملة الفرنسية على مصر، كتابه الجديد «الاستشراق هيمنة مستمرة» هو الكتاب الرابع فى مسيرته التى تضمنت نقد الاستشراق وهو موضوع تخصصه، ودراسة العلاقة بين الاستشراق والإمبريالية أو الاستعمارية، وحضر إلى القاهرة العام الماضى بدعوة من مكتبة الإسكندرية وتحدث أن من دوافعه لكتابته هو نقد كتاب اللورد كرومر «مصر الحديثة» الذى صدر سنة ١٩٠٨ وبرر فيه استعمار مصر، وكرومر هذا كان يعمل فى الإدارة المالية فى الهند الخاضعة للاحتلال الإنجليزى، وقد تعلم هناك إثارة الفتن بين الهندوس والمسلمين عن طريق الوقيعة بينهما بطرق غير مباشرة، ثم التدخل لإنصاف طرف على الآخر، حتى شعر الطرفان بأن وجوده فى الهند ضرورى، ثم جاء إلى مصر سنة ١٨٧٩ ليعمل فى إدارة «صندوق الدين» الذى أُنشئ لتسوية الديون التى اقترضتها مصر لشق قناة السويس، وكان الهدف الأساسى هو: كيفية استغلال هذه الديون فى إخضاع مصر لبريطانيا، وبعد أن تم احتلال مصر والقضاء على الثورة العرابية، عُيّن وكيلًا للإدارة البريطانية فى مصر ثم قنصلًا عامًا، ثم أخذ صفة المعتمد البريطانى ولُقب بـ«اللورد كرومر»، المتصرف فى شئون مصر باسم حكومة بريطانيا العظمى، وكان يرى أن مصر لا يمكن أن تتقدم دون المستعمر، وأن شعبها غير مستعد للديمقراطية ولا تناسبه، قال «جران» فى كتابه: «أما بالنسبة إلى الإسلام فى كتاب مصر الحديثة، فقد افترض كرومر بنفس المنطق العنصرى أنه ظاهرة ثابتة تمامًا لا يمكن العبث بها، بمعنى أن دعاة التجديد مثل الشيخ محمد عبده كانوا يضيعون أوقاتهم، كان كرومر على عداء مع ديننا الحنيف، ويقوم بتسفيه آراء المجددين، أما مسألة الديون فهذه لم تكن مشكلة»، وقال جران إن صندوق الدين هذا كان قد تم إقراره فى تركيا قبل مجىء كرومر بعام، ولم يحدث فيها شىء، وأضاف: «نودى باحتلال مصر، ولم يطالب أحد باحتلال إيطاليا ولا تركيا ولا دول أمريكا اللاتينية.. وكانت تلك الدول تثقل كاهل بعضها أيضًا بديون ضخمة أو فى حالة إفلاس، مع الأخذ فى الاعتبار أيضًا أن عرابى لم يمثل تهديدًا لقناة السويس ولا للمصالح المالية الأوروبية»، كرومر كان يرى أيضًا أن المصريين ليسوا أمة واحدة، وإنما جماعات دينية ومذهبية وعنصرية، وأن الإسلام فى منهج الاستشراق يعنى الجمود والإرهاب وبعيد عن الثقافة الحديثة، ولعل أهم ما فى انتقاد بيتر جران لكتاب كرومر، هو تجاهل المستشرقين التحالف البروتستانتى اليهودى بين الأمريكيين «المسيحيين واليهود» بشأن فلسطين، كرومر كان يعبر عن الوجه القبيح للاستعمار، الذى لم ولن يتغير.. ولا يزال ينصب فخاخه حتى لا ننهض.