رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحج أشهر معلومات» دعوة للاجتهاد والتجديد !

انتهى موسم الحج هذا العام، وقد أتمه بفضل الله قرابة المليوني حاج، رغم ارتفاع دراجات الحرارة بما يفوق طاقة البشر في الظروف العادية، وفقدنا خلالها أعدادًا كبيرة من الحجاج معظمهم من كبار السن والمرضى وأغلبهم من المصريين، رحم الله من فارق الحياة وغفر لهم وصبر ذويهم وعفا الله عن المصابين والمفقودين.
وبعيدًا عن أسباب ارتفاع أعداد الوفيات التى تتنوع بين ارتفاع دراجات الحرارة ومخالفات الحجاج لتعليمات إدارة الحج بالمملكة أو تلاعب الشركات السياحية ومخالفتها شروط التنقل والإقامة والمغالاة في تقدير تكلفة أداء الفريضة.. وبدون الترصد لحوادث موسم الحج المتكررة بين العام والآخر، فإن التاريخ يشهد على تكرار وقوع ضحايا خلال مواسم الحج، ويكاد لا يمر عام بدون وفيات بين الحجيج لأسباب مختلفة يتصدرها كبار السن والمرضى نتيجة لارتفاع دراجات الحرارة أو اندلاع حرائق أو بالتدافع والتزاحم وغيرها من الأسباب التي تخرج عن سيطرة الجهات المنظمة، التي لم تقصر يومًا في تقديم كل الخدمات لضيوف الرحمن.
ودون مبالغة فإن المملكة العربية السعودية اعتادت على تسخير كل طاقتها لخدمة حجاج بيت الله، ونشهد تطورًا ملحوظًا كل عام عن الذى قبله، وقد نجحت المملكة فى تطوير إدارة مناسك الحج وحولته إلى علم يسمى «إدارة الحشود»، يعتمد هذا العلم على الدراسة والبحث الأكاديمى والعلمى، وقد تفوقت المملكة فيه وأصبحت رائدة فى إدارة الحشود أثناء مناسك الحج والعمرة، حتى أنها وضعت رؤية المملكة حتى عام 2030 وتستهدف استضافة 30 مليون حاج ومعتمر، دون وقوع ضحايا.
لكن من جانبنا نحن عموم المسلمين، وإذا كنا نؤمن بأن التفكير فريضة من فرائض الإسلام، وإذا كنا نؤمن بقول رسولنا الكريم «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» فلماذا لا نعيد التفكير في تنظيم موسم الحج بإعادة تفسير الآية الكريمة رقم 179 من سورة البقرة، بقوله تعالى: «الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولى الألباب»، ونعيد الوقوف عند تفسير معنى «أشهر معلومات»؟
فبقراءة سريعة وتصفح لما جاء فى تفاسير الراحلين من أهل السنة وكبار المفسرين فسوف نكتشفت أن ما نفكر فيه ليس جديدًا ولا غريبًا، ولكنها حقائق نتجاهلها ورخص ربانية لعبادة لا نعمل بها.
نستند أولًا لتفسير الشيخ العلامة «عبدالعزيز بن باز» أحد كبار مفسرى السلفية ومفتى المملكة العربية السعودية لحوالى 18 عامًا، فيقول رحمه الله: إن الحج يُهَل به فى أشهر معلومات، وهى: شوال وذو القعدة والعشر الأولى من ذى الحجة، هذا هو المراد بالآية، وسماها أشهرًا؛ لأن قاعدة العرب إذ ضموا بعض الثالث إلى الاثنين أطلقوا عليها اسم الجمع.
وقوله سبحانه: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ؛ يعنى: أوجب الحج فيهن على نفسه بالإحرام بالحج؛ فإنه يحرم عليه الرفث والفسوق والجدال.
نفس التفسير توصل إليه فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوى، وقال فيه: ولنا أن نلحظ أن الحق قال فى الصوم: «شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن» ولم يذكر شهور الحج: شوالًا وذى القعدة والعشر الأولى من ذى الحجة كما ذكر رمضان، لأن التشريع فى رمضان خاص به فلابد أن يعين زمنه، لكن الحج كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، ويعلمون شهوره وكل شىء عنه؛ فالأمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به، والشهور المعلومة هى: شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذى الحجة وتنتهى بوقفة عرفات وبأيام منى، وشهر الحج لا يستغرق منه سوى عشرة أيام، ومع ذلك ضمه لشوال وذى القعدة، لأن بعض الشهر يدخل فى الشهر.
ويرى الشيخ محمد رشيد رضا، أحد أقطاب الوسطية، أن قوله تعالى: «الحج أشهر معلومات» معناه أن الوقت الذى يؤدى فيه الحج أشهر يعلمها الناس، وهى شوال وذو القعدة وذو الحجة، أى أنه يؤدى في هذه الأشهر، ولا يلزم أن يكون من أول يوم منها إلى آخر يوم، بل معناه أنه يصح الإحرام به من غرة أولها وتنتهى أركانه وواجباته فى أثناء آخرها، فالوقوف فى التاسع من ذى الحجة وبقية المناسك فى أيام العيد وهى يوم النحر، الذى فسر به قوله تعالى: «يوم الحج الأكبر» وأيام التشريق، وأجاز بعض السلف تأخير طواف الإفاضة إلى آخر ذى الحجة. 
وقد اختلف العلماء فى ذلك فقال بعضهم: إنها الأشهر الثلاثة ومن أولها إلى آخرها، ويروى عن ابن مسعود وابن عمر وعليه مالك، وقال بعضهم: إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة، ويروى عن ابن عباس وعليه أبوحنيفة والشافعى وأحمد. ولا حجة في الآية لأحد على تحديده، والمتبادر منها ما ذكرناه. وقوله تعالى: «معلومات» إقرار لما كان عليه العرب فى الجاهلية من أشهر الحج، لأنه منقول بالتواتر العملى من عهد إبراهيم وإسماعيل- عليهما الصلاة والسلام.
وغير هؤلاء العلماء الكبار، يوجد العديد من التفاسير لعلماء ومفكرين عظام عبر التاريخ، ويرون أن موسم الحج يمكن تنظيمه خلال الأشهر الحرم، ويحق للجهة المشرفة عليه أن تنظم أفواجًا للحج تتفادى خلالها التزاحم وتمنح الفرصة لمن يتعرض للمرض أو عدم القدرة لأداء المناسك لأى سبب فى موسم الصيف من يضطر إلى تأجيله أو الحائض وغيرها من تنوع أسباب عدم القدرة على إتمام المناسك، وهو تحقيق لرحمة رب العباد بعباده فى واحدة من أهم فرائضه.
ما أدعو إليه ليس إعادة النظر فى موسم الحج عمومًا، ولكنها دعوة- أتحمل وزرها أمام الله- للتفكير والتدبر فى آيات الله وأحكامه وفقًا لتطور العصر بعيدًا عن المغالاة وبعيدًا عمن قال عنهم الله تعالى فى كتابه «إِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۗ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ» صدق الله العظيم.