السينما المصرية والقومية «3 - 3»
رأينا فى المقالين السابقين مدى الارتباط الوثيق بين هذا الفن الوليد الصاعد: السينما، وتطور أحوال المجتمع المصرى، خاصة بعد ثورة ١٩١٩ واكتشاف مقبرة توت عنخ آمون وإعلان المملكة المصرية، وتوجه مصر القومى ذى البُعد الفرعونى.
ولا يمكن أن نعتبر «الحالة المصرية» التى جسدها المخرج المصرى محمد بيومى هى مجرد مشروع فكرى فردى، بل لا بُد من تناوله من خلال السياق المصرى العام آنذاك والاتجاه إلى تأكيد وتجسيد القومية المصرية. هنا لا بُد أن نذكر المثّال الشهير محمود مختار، ولا سيما أشهر أعماله تمثال «نهضة مصر»، الذى لا يمكن فصل فكرته عن تطور الحركة الوطنية وقيام ثورة ١٩، والبُعد القومى المصرى فى هذا الشأن. ويذكر هنا تشجيع سعد زغلول فكرة التمثال، والدعوة لاكتتاب عام بين أبناء الأمة المصرية لتشييد التمثال. وما يهمنا هو «البُعد الفرعونى» فى القومية المصرية؛ حيث خرج التمثال فى صورته الأخيرة على شكل فلاحة مصرية، ترمز إلى مصر، تستند بيدها إلى «سفنكس» أبوالهول، الذى يرمز إلى تاريخ مصر القديمة، وكأن الفلاحة- مصر- تنظر إلى الأمام «المستقبل» وهى تستلهم التاريخ الخالد.
وسيرًا فى الاتجاه نفسه ينعقد عزم الأمة المصرية بعد وفاة سعد زغلول فى عام ١٩٢٧ على إقامة «ضريح» له، هو المكان المجاور لمنزله «بيت الأمة»، والمعروف حتى الآن بضريح سعد. والأمر المثير، وربما الفريد، أن يتم بناء هذا الضريح على شكل «معبد فرعونى»، بينما جرت العادة وربما حتى الآن على إقامة مقبرة أو ضريح الملوك والزعماء على نمط إسلامى، أو داخل مسجد من المساجد.
كان كل ذلك فى حقيقة الأمر تأكيدًا وتجسيدًا للقومية المصرية ذات البُعد الفرعونى.
واستمرارًا للنزعة القومية التى تستند إلى التاريخ المصرى القديم «الفرعونية»، ومع ظهور المخرج التركى الشهير وداد عرفى على الساحة السينمائية فى مصر، سواء كمخرج أو كمنتج أو حتى كممثل، قبل أن يعود إلى تركيا بعد ذلك، وفى عام ١٩٢٦ نجده يعلن عن أن الشركة السينمائية الوليدة التى يمثلها فى مصر، تنوى إنتاج عدة أفلام من أبرزها فيلم عن توت عنخ آمون.
وينعكس كل ذلك على حلم ظهور سينما ذات طابع وتوجه مصرى، سينما تستطيع الوقوف أمام سيل الأفلام الغربية، لا سيما الأمريكية منها. من هنا يدخل بنك مصر، الصرح الاقتصادى المصرى، مجال صناعة السينما فى مصر؛ إذ يقوم طلعت حرب الاقتصادى والسياسى المصرى المشهور بإعلان تأسيس بنك مصر فى عام ١٩٢٥ شركة مصر للتمثيل والسينما. وفى خطبة شهيرة له فى عام ١٩٢٧ فى حديقة الأزبكية يصرح طلعت حرب بأنه: «أصبحت للسينما قوة هائلة من قوى العصر الحاضر قد تناطح قوة الصحافة وقد تناطحها بعد حين».
وفى الخطبة نفسها يوضح طلعت حرب الهدف الأساسى لبنك مصر من دخوله مجال الإنتاج السينمائى هو إنتاج «رواية- يقصد فيلمًا- من الروايات مصرية فى موضوعها، مصرية فى أشخاصها، مصرية فى مناظرها، ومصرية فى صناعتها». ونلاحظ هنا تكرار كلمة «مصرية» دلالة على الحلم بميلاد سينما مصرية تتماهى مع حركة المد القومى المصرى، فى مرحلة ما بعد ثورة ١٩ وتأسيس المملكة المصرية. هذا الحلم الذى سينجح فى تحقيقه بنك مصر، إلى حد كبير، فى عام ١٩٣٥ مع تأسيس استديو مصر، كى تصبح القاهرة بحق هوليوود الشرق.
ويؤكد طلعت حرب فى خطبته على صورة الطابع المصرى للسينما، ودور السينما المصرية الوليدة ليس فقط فى مصر، ولكن أيضًا فى دول الجوار، ويؤكد أيضًا إمكانية مواجهة السينما المصرية، لما نطلق عليه اليوم الغزو الفكرى، أمام السينما الأجنبية: «روايات- أفلام- مصرية تكون فى منزلة عالية من الفن يسمح بعرضها فى بلادنا وفى البلاد الشرقية المجاورة، وتكون أقرب لعاداتنا وطقوسنا وأحوالنا الاجتماعية من الروايات- الأفلام- الأجنبية التى تكتظ بها دور السينما فى الشرق».
وفى العام نفسه ١٩٢٧ تخرج علينا عزيزة أمير بالفيلم الشهير فى تاريخ السينما المصرية، فيلم «ليلى»، الذى يعتبر معلمًا رئيسيًا فى الحركة السينمائية. ولا يهمنا هنا الحديث عن الفيلم فى حد ذاته، ولكن ما يهمنا هو علاقة هذا الفيلم بالمسألة القومية وصناعة السينما. ويورد أحمد الحضرى ما كتبته جريدة الأهرام فى ١ نوفمبر ١٩٢٧ عند عرض الفيلم: «هى السينما.. السينما المصرية القومية البحتة.. هل تعوزنا المناظر؟ لماذا لا تكون لنا فى سنين قلائل مدينة كهوليوود، ولتكن إمبابة.. أجل إمبابة سوف تضارع هوليوود».
من هنا لم يكن غريبًا أن يتحقق هذا الحلم القومى بعد سنوات قليلة فى عام ١٩٣٥، بإنشاء استديو مصر على يد بنك مصر، ولكن ليس فى إمبابة وإنما فى منطقة الأهرام. وهذا ليس غريبًا على بنك مصر الذى كانت فكرته الأساسية تأسيس اقتصاد وطنى.