طه حسين.. التعليم والثقافة الآن
يكاد كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» الصادر ١٩٣٨ أن يكون حديثًا عن واقع التعليم الراهن الآن، بل وحتى عن امتحانات الثانوية العامة التى تُجرى حاليًا. فى حينه تفاءل طه حسين بتوقيع معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا وما اشتملت عليه من سحب بريطانيا قواتها من مصر ما عدا الضرورية لحماية القناة، وفى خضم ذلك التفاؤل كتب طه حسين كتابه الشهير الذى رأى فيه أن «التعليم مستقر الثقافة»، وفيه يفرد طه حسين للتعليم بأربعين مقالًا من بين ٥٩ مقالًا، يتناول فيها حتى مشكلة ازدحام الفصول بالتلاميذ، والتعليم الدينى، والتربية البدنية فى المدارس وحقوق المعلم، وأيضًا تيسير الامتحانات العامة، من دون أن يترك صغيرة أو كبيرة فى ذلك المجال. تتجدد صورة الكتاب العظيم فى خاطرى مع امتحانات الثانوية العامة الحالية، وخوف الطلاب منها، الذى وصل إلى حد انتحار طالب فى إحدى قرى بنى مزار خوفًًا من الامتحانات التى اشتملت على أسئلة غريبة مثل: «ما جمع كلمة رحيم؟» وما مرادف كلمة «عاقبة». وبذلك الصدد يقول طه حسين: «إن مشكلة الامتحان فى مصر قد أصبحت خطرًا على التعليم والأخلاق والسياسة». ويطرح طه حسين قضية التعليم بصفته جزءًا من الاستقلال الوطنى للبلاد قائلًا: «نريد هذا الاستقلال العقلى والنفسى الذى لا يكون إلا بالاستقلال العلمى والفنى والأدبى»، ويمضى من ذلك إلى القول بأنه: «ليست حاجة الشعب إلى التعليم بأقل من حاجته إلى الدفاع الوطنى المتين.. فالشعب ليس معرضًا للخطر الذى يأتيه من الخارج فحسب.. ولكنه معرض للخطر الذى يأتيه من الداخل، حين يفتك الجهل بأخلاقه ومرافقه». ويتطرق المفكر الكبير إلى قضية غاية فى الأهمية ألا وهى ربط التعليم بالمنفعة المادية التى قد تعود منه على المتعلمين متسائلًا: «فهل من الحق أن أزمة البطالة قد وجدت فى مصر بحيث تحمل الكثيرين على أن يضيقوا بنشر التعليم العام؟.. وهل من الحق أن مناصب الدولة نفسها تضيق بالموظفين، وأن الشباب الذين يخرجون من الجامعة مضطرون إلى البطالة؟.. وفى الأرض أمم راقية وقد عرفت قبلنا أزمة البطالة للشباب المتعلمين، ولكنى لا أعرف أمة واحدة فكرت فى أن تعالجها بتضييق التعليم» ويضيف: «إن أزمة البطالة لن تعالج بإكراه الشعب على الجهل». يرفض طه حسين ربط التعليم بالنفع المادى المترتب عليه، أو بما قد يجلبه أو لا يجلبه من مال على المتعلم، لأن التعليم عنده ركن أساسى من الأمن القومى والاستقلال الوطنى، لا يتصل بالمكاسب المالية من عدمها، ويضيف: «وإلى الدولة وحدها يجب أن توكل شئون التعليم كلها فى مصر»، ليكون هناك منهج واحد ينشئ وجدانًا قوميًا مشتركًا. ويتطرق طه حسين بطبيعة الحال إلى مفهوم الثقافة، وتحديدًا ثقافتنا، التى يرى أنها تأثرت أكثر ما تأثرت بثقافة الشرق القريب، يعنى اليونان وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، بينما لم يتم ذلك التفاعل القوى بين ثقافتنا المصرية وثقافات الشرق البعيد: اليابان والصين والهند وغيرها، وأن علينا أن نواصل تلك العلاقة بدأب واهتمام، خاصة إذا تذكرنا أننا أخذنا من الغرب معظم ما لدينا من نظم، المسرح، والأشكال الفنية، وحتى نظم الحكم مثل الوزارة، ورئيس الوزراء، والبرلمان، وحتى نظام المحاكم، ولم يكن العرب ولا المصريون يعرفون ذلك قبل احتكاكهم القوى بالحضارة الأوروبية وحضارات الشرق القريب. وما زال صوت ذلك المفكر العظيم يفد إلينا كأنه يقرأ حياتنا الآن.