السينما المصرية والقومية «2-3»
رأينا كيف تأثرت، وأثرت، السينما المصرية بمجمل التطورات المهمة التى شهدتها مصر، فى إطار سعيها للاستقلال، واستعادة مشروع النهضة من جديد، لا سيما مع ثورة ١٩.
ومن المصادفات التاريخية المهمة والمثيرة التزامن بين اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون وصدور تصريح ٢٨ فبراير ورفع بريطانيا الحماية عن مصر، وما ترتب على هذا التصريح من إعلان قيام «المملكة المصرية»، هذا الإعلان الذى كان فى حقيقة الأمر من أهم ثمار ثورة ١٩١٩.
صاحب كل ذلك سقوط الدولة العثمانية بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، وما تلى ذلك من قطع آخر الصلات التى تربط مصر بالدولة العثمانية، وبالتالى رسوخ المملكة المصرية الوليدة ذات السيادة.
من هنا ستبدأ مصر صفحة جديدة من تغير أيديولوجية الدولة؛ حيث ستتقدم القومية المصرية ذات البُعد الفرعونى خطوات إلى الأمام لتصبح هى هوية ما بعد ثورة ١٩، وعشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
ووفقًا للدراسة المهمة التى قدمها كل من حرشونى وجانكوفسكى عن هوية مصر، فالقومية لديهما: «هى حالة عقلية ونمط سلوكى، مدرك حسى أكثر منها وجودًا موضوعيًا، لكنه دائمًا ما يتجه نحو التحقق فى الواقع نحو ترجمة مفاهيمه الفكرية إلى حقيقة موضوعية».
وكان من الطبيعى أن ينعكس كل ذلك على السينما المصرية، أو فى الحقيقة أن تعمل السينما على تجسيد وتأكيد هذه الأيديولوجية الوليدة. وتعتبر أعمال المخرج المصرى محمد بيومى، الذى نعتبره بحق الأب الأول للسينما المصرية، خير مثال على ذلك. ولكن أولًا من هو بيومى؟
ولد بيومى فى عام ١٨٩٣، وبدأ حياته العملية بداية مختلفة تمامًا؛ إذ تخرج فى المدرسة الحربية عام ١٩١٥، ولكنه سرعان ما أُحيل إلى الاستيداع فى عام ١٩١٨. ويُقال إن السبب وراء هذا الاستيداع السريع هو الخلاف الدائم لبيومى مع قادته من الضباط الإنجليز. على أى حال سرعان ما رحل بيومى عن مصر إلى ألمانيا، وهناك مارس هوايته المفضلة «التصوير الضوئى». وهناك فى ألمانيا تعرف بيومى على التصوير السينمائى، ومارسه كهواية ثم كاحتراف.
وفى عام ١٩٢١ عاد بيومى إلى مصر، فى خضم أحداث ثورة ١٩، وعقد عزمه على تأسيس شركة سينمائية، وإحداث نقلة نوعية «مصرية الهوية» فى هذا المجال. من هنا بدأ بيومى مشروعه الخاص الذى أنفق عليه كل ما يملك. والمهم هنا فى هذا الشأن هو إصداره جريدة سينمائية إخبارية لتغطية الأحداث المصرية الصاخبة آنذاك فى خضم توابع ثورة ١٩١٩. وكان خير تعبير عن التوجه القومى الجديد اختيار بيومى «آمون» اسمًا لجريدته السينمائية الوليدة، تيمنًا بهذا الاكتشاف الأثرى الذى دوى صداه فى مصر والعالم كله؛ إذ أخرج لنا بيومى جريدة «آمون» السينمائية. ولم يكن غريبًا أن يكون أحد أهم شرائط هذه الجريدة هو تصوير عودة سعد زغلول إلى مصر فى عام ١٩٢٣؛ حيث يعرض الشريط «ترحيب الأمة المصرية» بزعيمها. ويلاحظ أن بداية الشريط كانت عند تمثال إبراهيم باشا وتجمع الناس تحت هذا التمثال فى انتظار زعيمها، فى لقطة تموج باستلهام التاريخ؛ فإبراهيم فى العقل الجمعى المصرى آنذاك هو البطل الفاتح، وها هو الزعيم الجديد، سعد زغلول، تنتظره الأمة، بعد نجاح ثورة ١٩.
وتأكيدًا للبُعد القومى المصرى «الفرعونى» يشترك بيومى فى العام نفسه، ١٩٢٣، فى تصوير الفيلم الروائى «فى بلاد توت عنخ آمون» الذى أخرجه فيكتور روسيتو، ليعرض هذا الفيلم فى مصر فى العام نفسه، ثم يعاد عرضه فى العام التالى.