كاتب فرنسى ينصحنا بالخجل الثورى
كلما حلت ذكرى «نكسة ٦٧» هبَّت علينا العواصف الترابية الإعلامية التى تسعى لكى ترسخ فى الضمير المصرى الشعور بالهزيمة، وبأنه لم يكن ثمة جدوى، ولا فائدة، من المقاومة. هذا ما فعله الخديو والإعلام الغربى حين شوّه ثورة أحمد عرابى، وقدمها للوعى العام بصفتها مجرد «هوجة»، وصور آمال الحركة الوطنية باعتبارها «عصيانًا»، مثل كل عصيان، لا يسفر عن شىء، والقصد من وراء ذلك غرز القناعة فى الوعى واللا وعى بأن الشعب المصرى ضعيف ليس من قدراته الثورة ولا الانتفاض ولا النصر.
ويصمم أولئك على ألا يضعوا النكسة فى سياقها التاريخى، باعتبارها هزيمة فى سير القتال، فقد حدث أن غزا نابليون بونابرت روسيا بسبعمائة ألف جندى عام ١٨١٢، وتوغل داخل روسيا حتى غرب موسكو، واستمر الجيش الروسى فى الانسحاب أمام الغزو ثلاثة أشهر كاملة، وكان من الممكن أن يتوقف البعض عند ذلك الانسحاب ويصب على تلك اللحظة كل صفات الهزيمة، وكان من الممكن للبعض أن يرى ذلك التراجع فى سياق التأهب للهجوم.
وقد بقيت الحقيقة وحدها وهى أن الهزيمة الحقيقية، على حد قول أحمد السيد النجار، هى استسلام البلد المهزوم عسكريًا لأهداف الطرف المنتصر وهو ما لم يتحقق فى حالة مصر، وما إن أعلن عبدالناصر عن تنحيه فى ٩ يونيو حتى خرج الملايين يعلنون عن تأييدهم له، وسرعان ما بدأت حرب الاستنزاف التى أعدت الجيش لحرب أكتوبر، ورفع عبدالناصر فى قمة الخرطوم شعاره: «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف»، وواصل بناء الجيش، بل التنمية، والتشبث بالعداء للاستعمار وتحرير فلسطين.
لكن العواصف الترابية لا تريد لنا أن نستخلص من كل ذلك سوى شىء واحد: أننا هزمنا، وانكسرنا، وأن علينا أن نوقن أننا شعب غير قادر على الكفاح أو التصدى للغزو، وعن ذلك يكتب هذه الأيام الكاتب الفرنسى فريدريك جروه عن أن «الخجل شعور ثورى»، وينصحنا على موقع «معنى» قائلًا إن الخجل والشعور بالخزى والعار شعور ثورى!
ولا يهدف الكاتب من وراء ذلك إلا لغرز معانى الهزيمة، بل تجميل الشعور بالهزيمة بصفته شعورًا ثوريًا، ولا يدل كل ما كتبه ذلك الفرنسى إلا على جهله المطبق بمشاعر الناس أيام النكسة، فلم يكن ثمة شعور لا بالخجل، ولا الخزى، بل بالألم والغضب، وشتان بين الأمرين، الألم الذى تحسه عندما ترى طفلك جريحًا والغضب لأن عليك أن تسارع مع ضعف الإمكانات بتقديم الدواء.
أما الشعور بالخجل الذى ينصحنا به الكاتب الفرنسى فلم يكن له وجود قط، ولا لحظة، ولولا الألم والغضب والانتفاض ضد النكسة ما واصلت مصر طريقها لترد الغزو، كما فعلت طوال تاريخها مع غزوات عديدة تفرقت وبقيت مصر، لكن لم يعد مستغربًا أن ينصحنا بالخجل أولئك الذين لا يعرفون شيئًًا عن الخجل، وأولئك الذين ينحصر كل دورهم فى غرز الشعور بالانكسار خلافًا للحقائق، وأولئك الذين ينظرون إلى النكسة خارج سياقها التاريخى، أى فى إطار الهجمة على ثورة قامت بطرد الإنجليز باتفاقية الجلاء ١٩٥٤، وتحقيق الاستقلال الاقتصادى ببناء المصانع وبقرارات تمصير الشركات الأجنبية وكسر احتكار السلاح عام ١٩٥٥، وبناء السد العالى، وتفكيك حلف بغداد الاستعمارى ١٩٥٨، ودعم الكفاح الفلسطينى المسلح، ودعم ثورة الجزائر، وإلهام ليبيا بالقضاء على القواعد العسكرية، ومساعدة اليمن فى الخروج من ظلمات العصور الوسطى، وإتاحة التعليم مجانًا لأوسع فئات الشعب. فى هذا السياق تحديدًا كان لا بد من ضرب الثورة، وفى هذا السياق وقعت نكسة ٦٧، ولم يشعر أحد بالخزى أو الخجل كما يدعى مسيو فريدريك، بل بضرورة الاستمرار.