رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيادى «الموساد» فى لاهاى

فى جناح فندق فى مانهاتن عام ٢٠١٨، كانت المدعية العامة السابقة فى المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، خلال زيارة رسمية فى نيويورك، وذهبت حينها إلى الفندق للقاء رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية جوزيف كابيلا، الذى سبق أن التقت به عدة مرات على خلفية المحاكمة التى كانت مستمرة فى لاهاى بشأن الجرائم المزعوم ارتكابها فى بلاده.

لاحقًا فهمت «بنسودا» أن الاجتماع كان فخًا: ففى مرحلة ما، بعد أن طُلب من موظفيها مغادرة الغرفة، دخل رئيس الموساد الأسبق يوسى كوهين إلى الجناح، فى خطوة أثارت الذعر بين «بنسودا» وأفرادها، وتحدث معها بطريقة تشبه التهديد أو الابتزاز لتتوقف عن ملاحقة إسرائيل فى المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى.

كُشف لاحقًا أن «كابيلا» كان مشاركًا فى الفخ وساعد «كوهين» فى تهيئة فرصة للتحدث إلى «بنسودا»، وفى العام السابق لهذا الفخ تم بالفعل الكشف عن اتصالات بين «كوهين» و«كابيلا»، مع الأخذ فى الاعتبار الزيارات التى قام بها كوهين كرئيس للموساد فى جمهورية الكونغو الديمقراطية.

القصة بدأت عام ٢٠١٧، حتى قبل قرار «بنسودا» فى فتح تحقيق ضد إسرائيل عام ٢٠٢١، ففى عام ٢٠١٧ كان الاتصال الأول بين يوسى كوهين وبنسودا تم فى مؤتمر ميونيخ الأمنى، حيث عرّفها بنفسه وأجرى معها محادثة قصيرة. وفقًا لبعض المصادر، كانت هذه مجرد الطلقة الافتتاحية: فقد شهدوا أنه فى العام التالى، فى عام ٢٠١٨، نصب كوهين الكمين لـ«بنسودا» فى فندق مانهاتن. 

المعلومات المثيرة تلك وردت فى إطار تحقيق أجرته صحيفة «الجارديان» البريطانية، وموقع «سيحا ميكوميت» الإسرائيلى، ومجلة «٩٧٢+»، واستند التحقيق إلى إفادات ٢٠ مصدرًا فى جهازَى الأمن والعدل الإسرائيليَّين، وشهادات مسئولين سابقين فى المحكمة الجنائية الدولية، ودبلوماسيين، وخبراء قانون دوليين.

وقالت المصادر، التى تحدثت إلى «الجارديان»، إنه بعد «الكمين» المفاجئ فى نيويورك، اتصل كوهين بـ«بنسودا» مرارًا وطلب مقابلتها، وعندما سألته فى إحدى اللحظات من أين حصل على رقم هاتفها، أجاب: «هل نسيتِ أين أعمل؟».

ولم يكتفِ «كوهين» بالمكالمات، فقد قاد «حربًا سرية» نيابة عن نتنياهو ضد المدعية العامة «بنسودا»، شملت المراقبة والترهيب والتلاعب، حيث عرض عليها صور زوجها التى التقطت سرًا، ووزع أشرطة تشهيرية، وحذرها: «لا تريدين الإضرار بأمنك وأمن عائلتك، ساعدينا فى الاعتناء بك».

وتزعم مصادر صحفية أنه من الواضح أن يوسى كوهين حاول فى البداية إقامة علاقة مع «بنسودا»، وأغراها بالتعاون مع إسرائيل، لكنه مع مرور الوقت غيّر أسلوبه، وبدأ باستخدام «التهديدات والتلاعبات».

تصعيد ضغوط كوهين على «بنسودا» بدأ بعد أن قررت فتح تحقيق جنائى فيما يتعلق بالجرائم فى غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وبين عامى ٢٠١٩ و٢٠٢١ التقى بها على الأقل ثلاث مرات بمبادرة منه.

أفاد مصدر استخباراتى بوجود علاقة شخصية ومباشرة لديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع فريق الاستخبارات الذى تجسس على المحكمة الجنائية الدولية، فديوان نتنياهو كان يرسل تعليمات بشأن معلومات حيوية إلى فريق الاستخبارات، ويحدد المواضيع التى تهمّه ومهمات جمع معلومات، بموجب سلّم أولويات، وكذلك أوامر تتعلق بالتجسس على نشاطات فى الحلبة الدولية. وأشار مصدر ثالث إلى أن نتنياهو كان مذعورًا من المواد التى حصلت عليها المحكمة الجنائية الدولية من الجانب الفلسطينى.

من جانبه، رفض يوسى كوهين التعليق، بينما علّق مكتب نتنياهو: «أكاذيب تهدف إلى إيذاء إسرائيل».

محاولات التأثير على موظفى الجنائية الدولية من شأنها أن تُعتبر مخالفة، بموجب البند ٧٠ لمعاهدة روما، ويتعلق هذا البند بعرقلة عمل المحكمة الجنائية الدولية والقيام بمهماتها، وهو يسرى كذلك على مواطنى دول لم توقّع المعاهدة، مثل إسرائيل.

ودومًا عرفت أن «أيدى الموساد» طويلة وبإمكانها أن تصل إلى كل مكان، الأحاديث عن الاغتيالات والانتقام وسرقة ملفات النووى، ومحاسبة قادة الفصائل الفلسطينية، وغيرها قد تعتبر غير عجيبة إذا ما قورنت بوصول أيادى الموساد إلى المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى، لكنهم كما يبدو علمونا أن كل شىء يمكن حدوثه.

بإمكانى أن أفهم الاغتيالات الموجهة لقادة حماس وحزب الله والجهاد الإسلامى، فهؤلاء بشكل أو بآخر مسئولون عن عمليات وُجهت ضد إسرائيليين، وبإمكانى أن أتفهم العمليات ضد المنشآت النووية، فهدفها هو تعطيل المشروع النووى الذى ترى إسرائيل أنه يهددها، وبإمكانى أن أتفهم المطاردات الطويلة للقادة النازيين، فجميعنا يعرف كم هو متورطون! 

لكن من الصعب أن أبتلع عملية استخباراتية موجهة ضد موظفين رفيعى المستوى فى المحكمة الجنائية الدولية فى لاهاى، كى يوقفوا التحقيقات الجارية ضد إسرائيل!