الموت مرتين.. ذوو الهمم فى غزة.. معاناة مضاعفة وسط الحرب ومُحتل لا يرحم
٢٤٥ يومًا من العدوان الإسرائيلى الغاشم والمستمر على قطاع غزة، مجازر فى كل مكان، والحصيلة آلاف من الشهداء والجرحى والمصابين، إلى جانب أشلاء وبقايا جثث تحت الركام، لم تجد حتى الدفن بكرامة.
المعاناة فى القطاع لا تزال مستمرة بسبب القصف الإسرائيلى الذى لا يتوقف، والنزوح المتكرر للفلسطينيين من مكان إلى آخر بحثًا عن الأمان، منذ أكتوبر الماضى، وسط انعدام جميع الخدمات ومستلزمات الحياة، ما أدى إلى الاقتراب من حدوث مجاعات، بسبب منع الاحتلال دخول المساعدات. كل هذا يعانيه المواطنون الأصحاء فى غزة، فلك أن تتخيل تأثير كل هذا الدمار والخراب وآلة القتل الثقيلة التى تحصد الأرواح بشكل جماعى على فئة ضعيفة وهشة بالأساس، هى ذوو الاحتياجات الخاصة.
«الدستور» ترصد: كيف يعيش ذوو الاحتياجات الخاصة فى قطاع غزة، مع النقص الحاد فى الأدوية اللازمة لهم، وغياب جلسات التأهيل والعلاج الطبيعى، وغيرها من الضروريات التى لا غنى عنها لهذه الفئة؟
إسراء موسى: لا أجد حتى حفاضات لشقيقى المصاب بمتلازمة داون
البداية من إسراء موسى، البالغة من العمر ٢٨ عامًا، وتقيم فى المنطقة الوسطى، وتحديدًا فى «النصيرات»، والتى فقدت والديها قبل الحرب الأخيرة، وتبقى لديها أخ وحيد من ذوى الهمم يدعى «عبدالحى»، يبلغ ٢٤ عامًا.
قالت «إسراء»: «شقيقى عبدالحى من أصحاب متلازمة داون، يعانى من الصرع والتوحد وزيادة الشحنات الكهربائية، لذا فإن الحرب الأخيرة أثرت عليه بشكل سلبى كثيرًا، خاصة مع نقص العلاج اللازم له».
وأضافت خريجة كلية الإعلام، التى تدرس الإرشاد النفسى: «يصاب برعب شديد عند القصف، والتنقل من مكان إلى آخر بحثًا عن الأمان، خاصة مع نزوحنا أكثر من مرة، قبل العودة مرة أخرى إلى منزلنا فى النصيرات، على الرغم من تدمير أجزاء كبيرة منه جراء القصف».
وواصلت: «شقيقى يحتاج إلى رعاية مكثفة، خاصة أنه لا يزال يستخدم حفاضات الأطفال حتى الآن، بجانب الكرسى المتحرك، ويحتاج طوال الوقت إلى الأدوية المهدئة، التى أصبحت غير متوافرة بسبب الحرب».
وأكملت: «عندما يتوافر بعض الأدوية، أعطيه جزءًا بسيطًا من الجرعة المحددة له، لكى أستطيع التعامل معه لأكثر من يوم لحين توافر جرعة جديدة، علمًا بأنه يحتاج إلى علاج يومى بشكل منتظم»، مؤكدة أنه «بسبب قلة الأدوية واستمرار القصف تأثر سلوكه بشكل سلبى، وأصبح يضرب نفسه باستمرار، بجانب حالته النفسية السيئة».
وتابعت: «بسبب قلة المياه وسوء النظافة الشخصية، جراء عدم توافر الاحتياجات الأساسية من مستلزمات تنظيف وحفاضات أطفال وغيرهما، أصبحت لديه تسلخات جلدية كبيرة، وللأسف لا أستطيع توفير البدائل، لأنها غير متوافرة دائمًا، خاصة بعد إغلاق المعبر بسبب انتهاكات الاحتلال».
وحول الطعام الخاص بشقيقها، قالت «إسراء»: «أكله خاص، ومع استمرار الحرب أصبح مكلفًا ومتعبًا بشدة، وبالتالى أصبحت غير قادرة على توفير احتياجاته الغذائية، لأن الموجود منها سعره غال جدًا»، موضحة أن «الدجاج غير متوافر نهائيًا، والخضروات والفواكه سعرها مكلف جدًا، لذا كل فترة أشترى له البيض كوجبة مفضلة ومفيدة له، بعد أيام من المعاناة».
وبينت أنه قبل الحرب كان شقيقها يذهب إلى مركز صحى تابع لجمعية مجتمع مدنى، لكن بسبب الحرب، وسوء حالته النفسية، خاصة مع استخدام حفاضات الأطفال، اكتفت بشراء الأدوية الخاصة به من المركز، مضيفة: «الاحتلال قصف المركز، ولم يعد العلاج متوافرًا ولا المتابعة الطبية».
وعادت لتتذكر ما يحدث له أثناء القصف، قائلة: «وقت القصف يرتجف فجأة، ويأتى إلى حضنى ويظل جانبى، أحاول لفت انتباهه لأشياء أخرى حتى ينسى القصف، خاصة أنه لا يستطيع التعبير عما بداخله، سوى من خلال بعض الحركات والإشارات، لأنه يعانى صعوبة فى النطق ولا يتكلم».
واستعرضت روتين يومهما أثناء الحرب، مشيرة إلى أن اليوم يبدأ بعد صلاة الفجر، حيث توقد نارًا لتحضير الفطور، ثم تعطى شقيقها العلاج إن وجد، وبعدها تعمل على تنظيفه وتبديل ملابسه، ثم تنظيف البيت.
وأضافت: «بعدها بقعد مع (عبود) ألاعبه، ثم أحضر أى طعام موجود على نار الحطب، لكن كل هذا نفعله وسط خوف وترقب، لأنه فى أى لحظة يمكن أن نتعرض إلى القصف، ونحتاج إلى مغادرة المكان والنزوح من جديد».
أم لـ3 من ذوى الاحتياجات الخاصة: اخترت العيش تحت القصف لرعايتهم
أم حسام أبوقادوس، السيدة الفلسطينية من «النصيرات»، معاناتها أكبر، فهى لديها ٥ أبناء، ٣ منهم من ذوى الهمم، بداية من «حسام» البالغ من العمر ٢٠ عامًا، ويعانى من تأخر فى النمو الجسمى والعقلى واعوجاج فى العمود الفقرى منذ الصغر، و«وئام» صاحب الـ١٥ عامًا، الذى يعانى أيضًا من تأخر فى النمو العقلى والنطق، علاوة على «بسمة» التى لم تتجاوز ١٠ سنوات بعد، تعانى من تأخر فى النمو العقلى وثقب فى القلب، بجانب الأب نفسه الذى يعانى من غضروف فى الظهر والركبة جعله غير قادر على العمل. أكدت «أم حسام» أن الحرب أثرت كثيرًا على صحة أولادها النفسية بشكل سلبى، وأدت إلى تدهور حالاتهم الصحية، فى ظل نقص الأدوية والعلاج اللازم لهم، بالتزامن مع قصف المراكز الطبية والتأهيلية.
وأضافت: «على الرغم من شدة القصف وقوة الصواريخ الموجهة إلى النصيرات، ونزوح أهالى المخيم، لم أخرج من منزلى منذ بداية الحرب، بسبب حالة أولادى الثلاثة، وصعوبة التنقل بهم بسبب وضعهم الصحى، لذا اخترت البقاء وسط القصف، فى حضن أبنائى وأفراد أسرتى».
وأشارت إلى أن أولادها كانوا يذهبون إلى مراكز صحية وتأهيلية، لكن الحرب أغلقت هذه المراكز، ونزح منها المتخصصون. كما أن ابنتها الصغيرة كانت تذهب إلى مدرسة خاصة، لكن الاحتلال قصفها.
وواصلت: «كنت أذهب إلى مستشفى الرنتيسى لعلاج أبنائى، وإخضاعهم إلى جلسات العلاج الطبيعى اللازمة، لكن الاحتلال قصف هذا المستشفى، وحتى الطرق المؤدية إليه، ما أدى إلى توقف العلاج».
وأكملت: «هناك نقص شديد فى كل شىء، خاصة الأدوية الخاصة بأبنائى الثلاثة، بجانب نقص الخضروات والفواكه والمستلزمات البسيطة، لم تبق سوى المعلبات غير الصحية التى تصل إلينا من خلال المساعدات».
إخصائى اجتماعى: لا إعانات مالية منذ بداية الحرب
«هناك فجوة كبيرة ونقص حاد فى الخدمات الطبية والصحية والتأهيلية والاجتماعية والنفسية، فى جميع القطاعات بشكل عام، لكن يمكن القول إن فئة ذوى الهمم أو الأشخاص ذوى الإعاقة هى الأكثر هشاشة وضعفًا من بين كل الفئات الموجودة داخل قطاع غزة».. حقيقة يُذكر بها فادى إسماعيل، إخصائى اجتماعى من غزة، فى بداية حديثه لـ«الدستور».
وأضاف «إسماعيل»: «هناك نقص حاد فى الأدوات المساعدة والعلاجات الطبية، حيث لا توجد أماكن مؤهلة وملائمة داخل مراكز الإيواء والنزوح، تراعى تلبية الاحتياجات الأساسية للأشخاص ذوى الإعاقة، مثل الحمامات أو الطرق المجهزة الخاصة بهذه الفئة»، مشددًا على أن «الخدمات التأهيلية لذوى الإعاقة خلال هذه الحرب صفر. كما أن المخصصات والمساعدات المالية الحكومية لم تصرف لهم، حتى من قبل اندلاع الحرب الأخيرة».
وواصل: «هناك أطفال ذوو إعاقة بحاجة إلى أنواع معينة من الحليب، وبحاجة إلى حفاضات صحية، وهذا بالطبع غير متوافر، بجانب وجود إعاقات بحاجة إلى وجود التيار الكهربائى لطحن أو تحضير الطعام الخاص بهم، وهذا أيضًا غير متوافر بكل أسف».