رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السينما المصرية والقومية «1-3»

تعتبر السينما، بحق، التاريخ المصوَّر للقرن العشرين. وانتبه المؤرخون فى الغرب مبكرًا لهذا الأمر، من هنا ظهرت عشرات الدراسات التاريخية ليس حول «تاريخ السينما» ولكن عن السينما كتاريخ سياسى واجتماعى.

وفى مصر تأخر كثيرًا اهتمام المؤرخين بالنظر إلى السينما من هذا المدخل المهم، الذى يُنعِش مجال الدراسات التاريخية ويفتح لها آفاقًا جديدة، لا سيما أن للسينما المصرية تراثًا طويلًا يمكن العمل عليه والاستفادة منه.

ومن الميادين المهمة التى لم ينتبه إليها المؤرخون، علاقة السينما المصرية بالفكرة القومية، والتأثير المتبادل بينهما؛ حيث بدأت السينما فى مصر وهى تعانى تحت نير الاحتلال البريطانى، وتجاهد من أجل الاستقلال، وإعادة بناء مشروع النهضة الذى أُحبِط مع الاحتلال.

ومع تولى الخديو الشاب عباس حلمى الثانى الحكم فى عام ١٨٩٢، تبدأ محاولات عودة الروح للحركة الوطنية المصرية، ورفع شعار الاستقلال، وخروج الإنجليز من مصر. ويتجلى ذلك فى ظهور مصطفى كامل ومحمد فريد، ودعم الخديو الشاب لهما، نكاية فى الإنجليز، وفى محاولة ليصبح الحاكم الحقيقى لمصر. وانتبه الخديو عباس حلمى مبكرًا لأهمية السينما فى مشروعه لاستعادة هيبة الخديوية، وتأكيد أنه الخديو الحاكم الحقيقى لمصر وليس الاحتلال الإنجليزى.

من هنا يظهر الشريط القصير الذى صوره معمل عزيز ودوريس فى الإسكندرية، فى عام ١٩٠٧، حول زيارة الخديو للمعهد الدينى فى المرسى أبوالعباس. ويتماشى ذلك مع أيديولوجية ذلك العصر، وهى الاتجاه الإسلامى، والتأكيد على ارتباط مصر بالدولة العثمانية، لإحراج المركز القانونى لبريطانيا فى مصر كقوة احتلال. ويؤكد ذلك صدور الكتاب الشهير لمحمد فريد فى مطلع القرن العشرين «تاريخ الدولة العلية»؛ حيث يذكر فى مقدمة الكتاب أن السلطان عبدالحميد الثانى هو خليفة المسلمين، وأن عباس حلمى هو نائبه فى مصر، فى محاولة أيضًا لإحراج وضعية الاحتلال البريطانى فى مصر، وتأكيدًا للأيديولوجية الرائجة آنذاك «الهوية الإسلامية» التى سينافسها بعد قليل «القومية المصرية» ذات البُعد «الفرعونى».

وإدراكًا من الخديو عباس حلمى الثانى لأهمية السينما فى مشروعه لتأكيد أنه الحاكم الحقيقى للبلاد، وليس الاحتلال البريطانى، يظهر لنا شريط سينمائى قصير فى عام ١٩١٠ عن موكب الخديو فى محطة مصر، وشريط آخر عن موكب الخديو فى عام ١٩١٢ وهو يعبر كوبرى قصر النيل، القريب من ثكنات الجيش الإنجليزى، وتركز الكاميرا فى لقطة مهمة على الأسدين الشهيرين آنذاك لكوبرى قصر النيل. هكذا وظف الخديو عباس حلمى الثانى السينما، وهى فى بداياتها، فى خدمة مشروعه السياسى، لتأكيد أنه الحاكم الفعلى لمصر.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى فى عام ١٩١٨، تشهد مصر مبادرات وطنية عديدة من أجل رفع الحماية البريطانية عن مصر، وإرسال وفد مصرى إلى مؤتمر الصلح فى باريس للاعتراف باستقلال مصر. لكن بريطانيا ترفض ذلك الأمر، بل تقوم بنفى سعد زغلول ورفاقه، لتندلع ثورة ١٩١٩ ضد الاحتلال البريطانى، وهى أكبر ثورة شعبية فى تاريخ مصر فى القرن العشرين، بل فى تاريخ المنطقة، وتستمر الثورة فى مصر عدة سنوات بين هدوء وشد وجذب.

وفى عام ١٩٢٢ يطرأ حادث جديد يهز مصر كلها، بل العالم بأكمله، وهو حدث ليس له طابع سياسى ظاهر، لكن سينعكس أثره بشدة على الحياة المصرية وعلى التوجه الأيديولوجى لها، وصعود القومية المصرية ذات البُعد «الفرعونى»، ألا وهو اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون فى نوفمبر ١٩٢٢، وانبهار العالم كله بسحر هذه المقبرة.

ولا أدل على تأثير اكتشاف هذه المقبرة على التوجه الأيديولوجى لمصر، من موقف أمير الشعراء أحمد شوقى تجاه هذا الاكتشاف الكبير؛ إذ كان شوقى قبل هذا الاكتشاف ذا توجه إسلامى فى شعره، حتى إنه مدح الخلافة، والدولة العثمانية وغيرهما، لكنه الآن يتيه فخرًا بهذا الاكتشاف، وينظم الشعر فى مدح توت عنخ آمون قائلًا:

يا ابنَ الثَواقِبِ مِن رَعٍ وَابنَ الزَواهِرِ مِن آمون

ويخاطبه أيضًا قائلًا:

مَلِكَ المُلوكِ تَحِيَّةً وَوَلاءَ مُحتَفِظٍ أَمين

وكان من الطبيعى أن ينعكس كل ذلك على السينما المصرية، لتبدأ صفحة جديدة فى تأكيد القومية المصرية، وهو ما سنتناوله فى المقال المقبل.

انتبه الخديو عباس حلمى مبكرًا لأهمية السينما فى مشروعه لاستعادة هيبة الخديوية وتأكيد أنه الخديو الحاكم الحقيقى لمصر