لماذا يجب أن نموت؟
إن السؤال عن سبب موت الناس هو أحد الأسئلة العميقة والأساسية التي تصارع البشر معها عبر التاريخ. هناك عدة وجهات نظر يتبناها "العلم" يمكن من خلالها النظر في هذا السؤال:
المنظور البيولوجي:
من وجهة النظر البيولوجية، يعد الموت جزءًا طبيعيًا من دورة الحياة، تولد الكائنات الحية وتنمو وتتكاثر وتموت في النهاية، يخدم الموت وظائف بيئية مهمة، من خلال إعادة تدوير العناصر الغذائية والسماح للأجيال الجديدة بالازدهار، وبهذا المعنى فإن الموت ضروري لاستمرار الحياة وتوازن النظم البيئية.
ولكن "إيهاب" قد فعلها!. كان قد أدى دوره البيولوجي وانتقلت جيناته منه إلى ولدين هما الآن شابان رائعان، فلماذا يغادر؟ أما كان الأصح أن يبقي قليلًا ليتمتع بإنجابه شابين وسيمين على خلق؟
حسنًا من منظور إنساني أما كان يفترض بدلًا من أن يغادرنا وأطفاله صغار في أعمار الرابعة والسابعة أن يُترك قليلًا ليري زرعته تكبر وتظله؟ وإن لم تكن تظله، يستمتع ببهجة رؤيتها كبيرة؟
وإن كان من أنجبهم فاسدين مصدرين المشاكل وجميع الكوارث الطبيعية والحروب، أليس كان من العدل أن يبقي ليمنع عنّا أذاهم ؟ رحل زوجي الحبيب قبل ثلاثة عشر عاما وأربعة أشهر واثني عشر يومًا على إثر حادث أليم في عمر الرابعة والثلاثين.
أؤمن أنا بأنه ليست كل الجروح قابلة للاندمال والتعافي، فرغم مرور كل تلك السنوات لم أستطع ولا حتى أجرؤ على نبش جرحي.. لا أتذكر أنه حدث منذ إنشاء حسابي على فيسبوك "وأنا ثرثارة إلكترونية" أن كتبت مرة واحدة عن ملابسات وفاته ومدى احتياجي وشوقي وافتقادي له.
أعلم أنك ربما تردد الآن أنني ربما لو تكلمت لكان ذلك أفضل، ربما يصلح البوح شىء ما ويساعدني على التعافي. أجيبك، بأنه ليست كل الجروح قابلة للشفاء.. بعض الجروح لا يصلح معاها إلا البتر، وهو ما قد كان! قد بُترت قطعة من روحي بغيابه وتحول مكانه في قلبي إلى ثقب مرعب يبتلع الجميع ولا يمتلئ ولن يستطيع أحدهم ملء مكانه!
فبرغم قيامي وشريكي بواجباتنا البيولوجية، فقد رحل عني بمباركة المنظور البيولوجي!
المنظور التطوري:
من وجهة نظر تطورية، الموت هو آلية تدفع التكيف والتطور، تفضل عملية الانتقاء الطبيعي السمات التي تزيد من فرص الكائن الحي في البقاء والتكاثر، يزيل الموت الأفراد من السكان، مما يسمح للجينات المفيدة بالانتشار ويضمن البقاء للأصلح.
"حسنًا هذا المنظور أثار علامات استفهام عدة، ربما غضب في أعماقي هل كانت جدتي تلك الجميلة النبيلة العذبة هي حائط صد تطوركم المنشود؟ هل يعلم التطور من هي زينب؟ جدتي؟".
فتاة جميلة بوجه طازج جميل تنظر لملامحها تدخل الشمس إلى روحك بلا استئذان تُنير جنابات كيانك، وكأن ثمة تعويذة ما تلقيها عليك بمجرد أن تلتقي عيناك عينيها العسليتين كثيفي الرموش وتلك الملامح الدقيقة الملائكية الطابع.. هي الاستثنائية العصامية (ستّي).
تزوجت جدتي وهي في عمرها الخامس عشر كان ذلك في العام ،1965 وما إن اقترنت برفيق الدرب حتي فقدته بعد ما يقرب 5 سنوات على أثر اشتراكة في حرب الاستنزاف في العام 1970.
رحل وترك في جعبتها 3 أطفال، تركها خلفه شابة في العشرين من عمرها ولاشىء يعينها على الحياة لا مال، لا جاة ولا حتي بيت/ جدران تحتمي وأطفالها داخله، فبعد الوفاة بأيام تصاعد حقد حماتها عليها سائلة إياها لم غيّب الموت ابني وتركك؟ لم تجب زينب، قرر أهل الشهيد طرد الأرملة الطروب مع أطفالها إلى الشارع، استأجرت دكانا صغيرا وجعلته بوابة رزق وبيتا وملاذا لهم. اشتبكت مع الحياة وانتصرت، ورسخت لانتصارها انتقالات عدة بدأت من شابة مستأجرة دكانًا يبيع البقالة لرواد الحي إلى سيدة خمسينية تمتلك حصة في أحد مصانع الطوب، عمارات في أنحاء القاهرة أعجز عن تذكر أماكنها، أراضي بنزينة وأموالا سائلة في البنوك وإلخ..
أدت دور الأم المتفانية والجدة الحنون وسيدة الأعمال الناجحة على أكمل وجه ورحلت في سمو ورقي يليق ببياض سيرتها في الأرض والسماء بإذن الله، "ستي" التي لم ترتد المدارس ولم تحصل على شهادة دراسية، لكنها مُنحت من الله حكمة ورجاحة عقل سيدة أعمال عظيمة وكأنها خلقت لتتاجر وتربح.. استثمرت القليل حتى كَثر، وتوفيت عن عمر يناهز التاسعة والخمسين وهي مازالت جميلة ووديعة لا أتذكر أن غزا البياض شعرها حتى وقت وافتها المنية.. رحلت في رقي كما عاشت في ترفع عن كل شهوات الدنيا!
ولكن كانت تبعات ذلك الرحيل على مختلفة!
تزلزل كياني وقت تلقيت خبر وفاة "ستي" وكأنني قد حُررت من ملابسي وسط سوق يكتظ بالمارة، فترك الجميع ما يشغلهم وتوجهوا إلي يلتهمونني بأعينهم ويستبيحوني، صرختُ حتي بُح صوتي وكاد يختفي سائلة الستر من الله، بلا جواب.. سألته بإلحاح أن يردها لي ولو للحظة حتى أُقبل يديها ورأسها وأشكرها على كل مرة احتميت في حضنها من أذي الحياة. ولكن لا رد.
غادرت سيدة نساء الدنيا في عيوني وأخذت شقفة من قلبي لم تترمم ولن تترمم حتى ألحق بها.
أما كان التطور الكوني في حاجة إلى زينب، ألم تكن عقلية تجارية بـامتيار ولو تولت أمور العباد لأنصفتهم؟
ألا يضير هذا التطور قلبي العليل؟ فإن كان شعارك أيها التطور أن " البقاء للأصلح" فمن هو من أصلح من "زينب"؟
المنظور الجيني: من وجهة النظر الجينية، يمكن برمجة الشيخوخة والموت في الشفرة الوراثية للكائنات الحية، يقترح بعض العلماء أن الشيخوخة والموت هما نتيجة للمقايضات التطورية بين استثمار الموارد في النمو والتكاثر مقابل الحفاظ على آليات الإصلاح والصيانة الخلوية. ومن وجهة النظر هذه، فإن الموت هو نتيجة للبرمجة الجينية التي تحكم عملية الشيخوخة.
أنا أحترم العلم وأجله وأجل أهله وإن كان لي كمتلق قد يصعب عليه فهم المنظور الجيني للموت، لكني توصلت إلى معادلة مفادها أن "الموت مخصص لمن ضربت بهم أوصال الشيخوخة"؟
ماذا عن صديقي الشاب المتوفى حديثًا في حادث دراجاته البخارية؟ كان في طريقة إلى استصدار شهادة جامعية ليلتحق بإحدى الوظائف ويشرع في تنشئة حياة مستقرة قد ينعم فيها!
تلقيت خبر وفاة صديقي الفيسبوكي أمس الأول. لم تكن صداقتنا تتعدي حدود مشاركتنا نفس الأفكار التي نجاهر بها على الفيسبوك كما عهدته بريئًا، شجاعا، مهذبا.
حزنت بعمق وكأنه أحد أفراد أسرتي.. بمجرد قراءتي الخبر هرعت إليه في صندوق الرسائل سائلة صديقي أنت بخير صحيح ؟ هل ما يقولون حقيقي؟
لم يصلني رد "بقيت أمامي شعلة أمل تتأرجح، ربما هي مجرد غيبوبة وسيعود، سيلتحق بالوظيفة ويتزوج من أحداهن ونبارك نحن متفرجي الفيسبوك ليلحق بصور زواجه صور احتفالات إنجانه طفله الأول وهكذا، دورة حياة الناس العادية ولكن هنا الوضع كان مختلفا لأن الحياة قررت تغييب صديقي لأسباب لا أعلمها. ورغم تأكيدات أصدقاء مشتركين أن الوفاة تمت بالفعل وتم دفن الجثمان، إلا أنني لم أصدق إلا صباح اليوم التالي عندما عزاني أخوه معرفًا نفسه من حساب صديقي الشخصي هنا. تأكدت أنه غادرنا ف صديقي الذي أعلم كان سيكون أكثر حرصًا علي خصوصيته من ذلك!
المنظور الوجودي: من المنظور الوجودي أو الفلسفي، فإن الموت جزء من الحالة الإنسانية التي تعطي معنى للحياة. إن الوعي بالوفيات يشكل التجارب البشرية ويحفز الأفراد على إيجاد الهدف والمعنى والوفاء في حياتهم. يمكن أن يكون الموت بمثابة تذكير بأهمية الحياة وطبيعتها المحدودة، مما يدفع الناس إلى الاعتزاز بوقتهم وعلاقاتهم.
أرى من منظوري الخاص وهو منظور عاطفي للغاية، أن تكف الحياة أن تسلبنا من نحب! ففي حين إن وجهات النظر هذه تقدم نظرة ثاقبة لأسباب وجود الموت، فإن السؤال عن سبب وفاة الناس على وجه التحديد يظل معقدًا للغاية وقد لا يكون له إجابة واحدة محددة. إنه سؤال يشمل أبعادًا بيولوجية وتطورية وفلسفية ووجودية، ويحمل في طياته كل مشاعر تعرف إليها الإنسان تجتاحه دفعة واحدة وقد ترديه قتيلًا، وسيستمرهذا السؤال في إثارة التأمل والنقاش والاستكشاف عبر الثقافات والتخصصات وكل إجاباته ستكون غير مقنعة لكل من فقد حبيب وإن كنت دفعت بردود سوداوية قاتمة اختبرتها في طريقي الخاص. فللجميع طرقه الخاصة المختلفة التي يستطيع بها أن يفند أسباب لا منطقية أسباب الموت فلعلنا نحتفظ بأحبابنا أكثر قليلا.