رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إشكاليات الرؤية المصرية الشعبية للقضية الفلسطينية


«1»
لا شك أن أهم فوائد وسائل التواصل الاجتماعى أنها أصبحت الوسيلة الأولى والأسرع لقراءة رؤية الشعوب للقضايا المحيطة بها. ويمكن القول إنها أصبحت أشبه ما تكون بصفحات الاستبيان والاستقراء الفورى لرؤى الشعوب، واختصرت الوقت أمام دوائر البحث العلمى. فقبل تغولها كان على الباحثين أن يقضوا شهورًا من البحث الميدانى إذا ما أرادوا القيام باستبيان لرأى قطاعات معينة من الشعب تجاه قضية بعينها، ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعى، كما نعلم، إحدى مفردات توجيه الرأى العام عن طريق مؤسسات ومنظمات وأجهزة، لكن هذا لا يمنع أنها ما زالت وسيلة قوية لقراءة إدراك وعقول الشعوب قراءة قريبة من الواقع.
فى الشهور التى تلت هجمات السابع من أكتوبر نقلت صفحات هذه الوسائل ما يمكن اعتباره الرؤى المصرية الشعبية لما يحدث فى قطاع غزة وللقضية الفلسطينية بشكل عام، وبعد المتابعة الحثيثة أعتقد أن المصريين، ككل الشعوب، لا يتوحدون شعبيًا على رؤية موحدة تجاه هذه القضية برمتها، بل نحن أمام عدة رؤى يناقض بعضها الآخر أحيانًا بشكل تام، أو تختلف إحداها عن الأخرى فى بعض التفاصيل، ولا تجمع هذه الرؤى سوى نقطة واحدة وهى الرفض والاستنكار الإنسانى جرائم العدوان على القطاع.
تلتف حول كل رؤية قطاعات من المصريين تتحمس لها وتدعمها وتعبر عنها، سواء بالتعبير الذاتى الصريح أو عن طريق دعم المتفقين معهم. ولكل رؤية منظرون هم من صاغوها، ولها أيضًا رعاة ومحركون، سواء كانوا أفرادًا أو هيئات أو مؤسسات أو أجهزة، والوضع الحالى الذى يمكن قراءته عبر هذه الصفحات هو ما استطاع رعاة كل رؤية الحصول عليه من نصيب فى العقل المصرى الشعبى الجمعى.

«2»
بشكل عام لدينا ثلاث رؤى، تضم كل منها كل ما تشابه فى الخط العام حتى وإن اختلف بعضها عن البعض الآخر فى بعض التفاصيل، الرؤية الأولى هى التى تؤيد رؤية الدولة المصرية وتساندها فى خطواتها فى إدارة الأزمة منذ اليوم الأول. تقوم هذه الرؤية على الإيمان بفكرة الدولة الوطنية ذات السيادة وذات المسئولية عن حماية ترابها الوطنى، وأن التزامات هذه الدولة تجاه باقى القضايا المحيطة هو التزام أخلاقى دستورى وقانونى ودبلوماسى، يستدعى المؤمنون بهذه الرؤية تاريخ الدولة المصرية فى دعم القضية الفلسطينية عبر ما يقرب من قرن كامل، وما تكبدته مصر من تضحيات بشرية واقتصادية. يطمح المؤمنون بهذه الرؤية لاستكمال بناء دولة عصرية قوية لا يتم استدراجها إلى فخاخ تُجهض ما تم إنجازه على الأرض وتقضى على آمالهم فى بناء هذه الدولة لعقود قادمة، يرفض أصحاب هذه الرؤية الخطاب الانهزامى ويؤمنون بقوة بلادهم واختيارها لطريق السلام بعد دفع ثمن استرداد الأرض، كما يتمسكون بعدم استخدام هذه القوة إلا فيما يدفع عن بلادهم خطرًا مباشرًا.
إلى أقصى النقيض من هذه الرؤية يقف أصحاب الرؤية الثانية والذين أعتقد أنهم ربما يفوقون فى العدد أصحاب الرؤية الأولى طبقًا لما نراه على صفحات التواصل الاجتماعى، تقوم هذه الرؤية على النظر إلى أحداث القطاع والقضية الفلسطينية بنظرة شمولية تعبوية، ويندرج تحتها قسمان يختلفان فى الراية التى يرفعها كل منهما، بينما يتفقان فى النظرة الشمولية. القسم الأول الأقل عددًا يرفع راية القومية العربية وما يتعلق بها من مصطلحات مثل الاشتراكية الثورية واليسار الثورى.. بينما يرفع القسم الثانى، الذى يمثل الغالبية المطلقة من أصحاب هذه الرؤية، راية الشمولية الإسلامية وأن غزة كمدينة إسلامية توجب الدفاع عنها من كل القوى الإسلامية دفاعًا مسلحًا، وأن فلسطين كأرض مسلمة تقع تحت الاحتلال توجب على كل المسلمين تحريرها.
معتنقو هذه الرؤية ينكرون ضمنيًا كل ما يتعلق بالتاريخ المعاصر والاتفاقات الدولية والحدود بين الدول والمسئولية الدستورية الوطنية لكل دولة تجاه ترابها الوطنى وتجاه شعبها. كما ينكرون ضمنيًا وطنية أو محلية المؤسسة العسكرية، ويرون أنها يجب أن تصبح مجرد جزء من القوة العسكرية العربية أو المسلمة وأن تلك المؤسسة مقصرة خانعة طالما لم تقم بتحقيق هذه الفكرة على الأرض! يعشق معتنقو هذه الفكرة ترويج الخطاب الانهزامى بين المصريين وأننا كمصريين، شأننا شأن كل العرب أو المسلمين، مهزومون خانعون طالما بقيت فلسطين محتلة! يتجاهلون، وأحيانًا يتوحدون مع الترويج الصهيونى، الانتصارات المصرية العسكرية ويبذلون جهدًا كبيرًا لتقزيم هذه الانتصارات والتقليل منها أو تشويهها.. ويحتفون كثيرًا بمشاهد مثل مشهد السجود فرحًا بهزيمة مصر عام 67م ويقدمونها كتأكيد لرؤيتهم. كما ينكرون على مصر حريتها فى اتخاذ قرارها بعد نصر أكتوبر. بعضهم يروج أن مصر إن لم تستخدم قوتها العسكرية الآن تحت هذه الراية فلا فائدة لها، وبعضهم وجه حملة مكثفة للسخرية من مصر وقوتها العسكرية لمحاولة غرس هذا الإحساس فى وجدان المصريين.
بين هاتين الرؤيتين هناك كتل، ربما تمثل غالبية المصريين، بدت وكأنها حائرة بين هؤلاء وأولئك، فاكتفت بالصمت عن مساندة أى منهما مع التعبير عن الرفض الإنسانى جرائم العدوان على غزة.

«3»
هذه الرؤى الثلاث تمثل المشهد النهائى الحالى لمجمل الإدراك الشعبى المصرى لما يحدث، وتمثل أيضًا المحصلة النهائية لما استطاع رعاة كل رؤية الحصول عليه من مساحة العقل المصرى الجمعى، مع الوضع فى الاعتبار أن الرؤية الأولى تكونت بفعل عاملين، الأول هو التجربة الحقيقية التى عايشها المصريون منذ أحداث يناير 2011م وحتى الآن، والثانى هو الجهد الذى بذلته مؤسسات الدولة المصرية فى حوالى عشر سنوات لمحاولة تصويب بوصلة الوعى المصرى. ومجرد وجود تكتلات مصرية شعبية تساند هذه الرؤية فى هذا التوقيت المفصلى يعد نجاحًا كبيرًا لهذه الجهود، وذلك لسبب بسيط هو أن صائغى ورعاة الرؤية الثانية قد ظلوا عقودًا طويلة يتمتعون بحرية كاملة فى الاستئثار بالعقل المصرى، وبسيطرة تامة على منابر شعبية طاغية يصبون من خلالها ما يريدون فى هذا الوعاء الذى انفردوا به، وطوال هذه العقود كانت «فلسطين – القدس – المسجد الأقصى» هى أشد الأدوات بريقًا فى أيديهم لتطويع هذا العقل وتخديره للاستسلام لتبنى هذه الرؤية حتى قبل سنوات من وقوع هذه الأحداث.
أحد أهم صائغى الرؤية الثانية هم رجال الدين، سواء بشكل فردى أو مؤسسى. حيث استطاعوا عبر العقود الأربعة السابقة لأحداث يناير السيطرة السياسية على مساحات كبرى من عقول المصريين عن طريق غرس عدة مفاهيم هى التى تم استدعاؤها عقليًا وروحيًا فى الأحداث الأخيرة، المفهوم الأول والأقوى هو حالة الحنين للدولة الإسلامية الموحدة العظمى عن طريق استقطاع مشاهد بعينها، صحيحة أو كاذبة، من التاريخ الإسلامى والإلحاح عليها فى كل خطب الجمعة والدروس الدينية فيما يزيد عن أربعين عامًا حتى غدت من مكونات الوجدان المصرى.
ومفهوم أنه يجب على المسلم أن يعتقد بوجوب عودة دولة الخلافة وهو ما روج له كل رجال الدين قبل عام 2011م وبلا استثناء، ومفهوم وجوب الاستشهاد دفاعًا عن المسجد الأقصى، رغم تعارض ذلك مع تعاليم الرسول «ص» الموجودة فى بعض كتب التراث الإسلامى ذاته، كان حاضرًا بقوة، ومفهوم التقليل وتقزيم أى انتصارات وطنية مصرية عبر القيام بالتجاهل التام لذكر نصر أكتوبر فى المساجد لمدة أربعة عقود وكأنهم اتفقوا جميعًا على ذلك سواء الرسميين منهم أو غير الرسميين وذلك فى محاربة صريحة للشخصية المصرية وهويتها. وقد كان لى شرف السبق فى كشف هذا وعرضه فى «الكتاب الأسود» وفى عدة مقالات صحفية. ولم يتم الالتفات إلى هذا إلا فى السنوات القليلة الأخيرة. ثم غرس مفاهيم مغلوطة مثل الصحوة الإسلامية وشباب الصحوة الإسلامية، فى إشارة إلى الجماعات المتطرفة وأعضائها وما كانت تقترفه من جرائم ضد مصر والمصريين، ولم يغب عنهم التعريض بصلح مصر بعد نصر أكتوبر من فوق المنابر فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات وأيضًا عن طريق رجال دين رسميين وآخرين منضمين ومنظرين لنفس الجماعات.
كل ذلك أتى ثماره بعد عقود حيث نجح رجال الدين فى الاستيلاء على مساحات، هى الأكبر، فى العقل المصرى الجمعى، وظهر ذلك بقوة فى مشهدين، الأول انتخابات عام 2012م والثانى هو ما نتحدث عنه الآن، لذلك فرجال الدين هم أصحاب النجاح الأضخم فى صياغة هذه الرؤية عبر العقود السابقة، وحين وقعت الأحداث الأخيرة لم يكن صعبًا لرعاة هذه الرؤية الحصول على تأييد كبير من قطاعات كبرى بين المصريين، فالأرض كان قد تم غرسها بالفعل سابقًا عبر عقود طويلة وليس مع وقوع الأحداث الحالية ذاتها، ونجاح مؤسسات الدولة الإعلامية والتوعوية فى السنوات الأخيرة فى صياغة رؤية مقابلة هو الذى حال دون انفراد رؤية رجال الدين بالساحة المصرية أو العقل المصرى كاملًا.

«4»
من الملاحظ بقوة أن هناك إشكاليات مهمة طغت على الرؤية الشعبية المصرية لأحداث قطاع غزة وللقضية الفلسطينية برمتها، وأن هذه الإشكاليات يتشارك فيها الجميع، لكنهم يختلفون فى سبب الوقوع بها. فبينما سقط فيها بعض أصحاب الرؤية الأولى نتيجة نقص معلوماتى ولن يكون لتسليط الضوء عليها أى أثر سلبى عليهم بل سيعتبرونها من مؤيدات رؤيتهم، لكن أصحاب الرؤية الثانية سوف يرفضون الاعتراف بها وسيشككون فيها.
أولى هذه الإشكاليات هى الحقائق التاريخية لقضية فلسطين. تلك المعضلة التى تعبر عن نفسها فى هذا الهوس بنشر خريطة فلسطين متزامنة بكلمات مثل حتى لا ننسى.. فلا يدرك كثيرون مثلًا أن المشكلة ليست فى خريطة فلسطين إنما فى تاريخها القديم والحديث والمعاصر. فهؤلاء يعتقدون أن الحل هو أن تصبح تلك الخريطة وطنًا خالصًا للفلسطينيين العرب دون وجود لدولة يهودية ما يناقض حل الدولتين. ومبعث اعتقادهم هذا هو عدم الإلمام المعلوماتى بتاريخ تلك الأرض، وقريبًا سأنشر موجزًا لهذا التاريخ، ولا يدركون أن وجود عملة معدنية باسم فلسطين من العصر اليونانى أو الرومانى لا يعنى أكثر من أن اليونانيين قد قرروا تغيير اسم إحدى ولاياتهم من جنوب سوريا إلى فلسطين  نسبة لبعض سكانها البلست الذين كانوا يقطنون الساحل. لكن هذا لا ينفى أنه قبل هذا الوقت كانت هناك ممالك صغيرة يهودية وعربية على بعض أجزاء هذه البلاد، كما لا ينفى أنه وقت صك هذه العملة كان هناك يهود يعيشون فيما يقرب من حالة حكم ذاتى فى بعض مناطق مملكتهم القديمة، حتى خريطة فلسطين بأسماء مدنها كان يقطن بعض مدنها يهود خاصة فى المدن ذات القداسة الدينية، كما لا يدرك كثيرون أن هناك معلومات تم حجبها عما حدث فى العقود من 1882م وحتى حرب 1948م مما يخص الهجرات الصهيونية لفلسطين، فمن الوثائق الرسمية نكتشف أن هناك عشرات الآلاف من اليهود قد دخلوا فى موجات هجرة شرعية وأن العثمانيين قد شرعنوا لهم تلك الهجرات، كما قاموا بعمليات شراء واسعة النطاق من بائعين مختلفين كما سأوضح فى مقال قادم مستقل.
لذلك، ولغيره من تفاصيل تاريخ هذه الأرض، لا يدرك مصريون كثر أن رؤية مصر المعاصرة لوجوب السعى لتحقيق حل الدولتين هى رؤية تعبر عن التاريخ الحقيقى والعادل وهى الرؤية التى رفضها العرب فى مناسبتين كبيرتين، الأولى بعد هزيمة 48م والثانية بعد نصر 73م.

«5»
أما الإشكالية الثانية فهى أن الرؤية الدينية التى يروج لها بعض المصريين هى رؤية فاسدة تماما، والتسليم بها سوف يقودنا إلى كوارث، منها أنه قد سبق الإسلام هناك وجود ممالك يهودية، بعضها اتخذ شكلًا دينيًا بحتًا، وقد حكمها من يُسمون بالقضاة، رجال دين يهود، لأول مرة ثم حكمها داود وسليمان وغيرهما وكان ذلك قبل الإسلام بقرون طويلة، كما سبق وجود الإسلام هناك وجود أماكن دينية مسيحية بما يعنى أن الإسلام هو الأحدث وجودًا هناك، وأن سيطرة العرب العسكرية على بيت المقدس لم تكن سوى حلقة واحدة من حلقات تاريخ هذه المدينة، كما أن التفسير الذى يتم ترويجه لبعض آيات القرآن الكريم عن دخول المسلمين للمسجد بأنه ما سيحدث فى هذا العصر هو عبث كامل يشبه العبث اليهودى الذى يدعى حقًا إلهيًا منحه الله لهم فى الأرض، وربما يكون مفاجئًا للبعض وجود تفسير دينى آخر يعرفه رجال الدين تمامًا وهو أن بعض المفسرين القدامى يرون أن دخول عمر بن الخطاب بيت المقدس هو المقصود فى آيات سورة الإسراء.
والرؤية الدينية هذه لم تمنع سابقًا من عقد مصالحات مع ممالك صليبية، كما لم تمنع من وجود يهود فى بيت المقدس فى العصور الإسلامية بعد أن كان الرومان قد طردوهم منها وبقى بعضهم خارج المدينة.

«6»
الإشكالية الثالثة.. كيف يفهم المصريون، ومعهم العرب، موقف الدول الأوربية المعترِفة مؤخرًا بالدولة الفلسطينية فهمًا صحيحًا؟، وكيف لا يفسد العرب، كعادتهم، هذه الفرصة كما أفسدوا ما سبقها من فرص لحصول الفلسطينيين على دولة لهم؟، فلو لم يفهم العرب هذا الموقف بشكل صحيح فربما ينقلب رأسًا على عقب، لأن هذا الاعتراف لا ينفى اعتراف نفس الدول بحق إسرائيل فى الوجود والحياة وهذا ما قاله أحدهم حرفيًا: «إن وجود دولة فلسطينية هو لمصلحة إسرائيل والضامن لأمنها»، فهذه الدول وغيرها، التى تمثل أقصى درجات الإنصاف للحق الفلسطينى، تدافع عن حق الشعب الفلسطينى فى الحياة كغيره من الشعوب ولا تدافع عن «حماس» مثلًا، التى تمثل لغالبيتها منظمة إرهابية، كما أن كل هذه الدول قد استنكرت فى اليوم الأول هجمات السابع من أكتوبر وعبرت عن مساندتها لإسرائيل فى الدفاع عن نفسها، ولم يقد هذه الدول إلى مشاهد الاعتراف إلا حماقة ودموية وجرائم المطلوب جنائيًا نتنياهو، ولو تصرف العرب بشكل مخالف لهذه الرؤية بعد توقف العدوان فهذا يعنى أن تفقد القضية كل هذا التعاطف الدولى الذى كان ثمنه دماء الشعب الفلسطينى من الأطفال والنساء والرجال لا ما قامت به حماس.

«7»
تتمثل الإشكالية الرابعة فى ذلك الخيط الرفيع الذى يفصل بين مشروعية المقاومة الوطنية ضد الاحتلال من أجل الوصول لموقع قوى يقود لنيل الحقوق المشروعة للشعب الواقع تحت الاحتلال وبين اعتناق أفكار متطرفة توازى اليهودية التى لا تقبل إقامة دولة فلسطينية وتوازى تلك المسيحية إبان الحملات الصليبية أو المسيحية الصهيونية المعاصرة.
وأن ترتبط أى حركة مقاومة وطنية بمفردة لازمة وهى الحرص على حياة ودماء الشعب الذى تناضل من أجل تحريره، فكثير من المصريين لا يدرك حقيقة هذه الشعرة الفاصلة، واختلط الأمر عليه وتناسى تاريخ «حماس» حتى ضد حركات التحرر الفلسطينية الوطنية واستهتاره سابقًا بدماء الفلسطينيين ممن يخالفونه فى الأيدلوجية، وحتى مشاهد هجمات السابع من أكتوبر قد خلت تمامًا من فكرة الحرص على صيانة دماء الفلسطينيين.
وأيضًا تاريخها، أى حركة حماس، ضد الدولة المصرية المساند الأول للحق الفلسطينى، فأى حركة تحرر وطنى تحفظ دائمًا مواقف مساندى قضيتها الوطنية مهما تطاولت السنون وتأخر التحرر.. حدث هذا مع دول إفريقية ظلت تحفظ لمصر دورها أثناء حكم عبدالناصر وقيامه بمساندة حركات التحرر فى تلك البلدان، أما أن تقوم حركة مسلحة، فى أى مرحلة من تاريخها، باستباحة دماء وأرض دولة تُعد المساند الأول لشعب هذه الحركة، فإن هذا يلقى بكثير من ظلال الشك على أن نعتبر هذه الحركة من حركات مقاومة الاحتلال والتحرر الوطنى.

«8»
ويتعلق بهذا أن بعض المصريين لا يستوعبون حرص مصر على إبقاء علاقاتها منفتحة على الجميع حرصًا منها على قيامها بدورها فى مساندة أهل القطاع، وأيضًا لكى يتسنى لها حماية أمنها القومى. ففى ذروة موقفها الرافض الاحتلال الإسرائيلى للجانب الفلسطينى من معبر رفح كانت تتواصل علنًا مع مؤسسات إسرائيلية تواصلًا مباشرًا لإبلاغ الجانب الإسرائيلى بموقف مصر ولمواصلة دورها التاريخى. هذا هو أيضًا موقفها من «حماس»، فمصر دولة مؤسسية كبرى، وكل مؤسسة بها تقوم بدورها الدستورى والوطنى بشكل متناغم مع باقى المؤسسات بغض النظر عن الأطراف الخارجية التى تتعامل معها، فمصر تفرق جيدًا بين موقفها من الشعب الفلسطينى وموقفها من تاريخ حركة «حماس» من مصر فى السنوات الماضية.
هذه الإشكاليات تشكل الآن سببًا مباشرًا فى بعض الضباب الذى يغشى أعين بعض المصريين حين يصوغون رؤيتهم الشاملة تجاه قضية فلسطين أو ما يجرى على أرض قطاع غزة.