الانشغال بالكتابة والاشتغال بها
يوجد فرق كبير بين الانشغال بالكتابة والاشتغال بها، الانشغال بها يعنى أنك تفتش داخل نفسك عن المناطق الغائمة التى لا يمكن وصفها، وتبحث طوال الوقت عن المفردات المناسبة للقبض عليها، إذا كنت شاعرًا فأنت فى ورطة لن يشعر بها أحد غيرك، تجلس أمام الصفحة البيضاء بعد أن تم تجريدك من خبراتك لكى تكتب قصيدة، تعرف أن الشعر يزداد صعوبة كلما تقدمت فى العمر، وتعرف أيضًا أن الحياة دونه من الصعب أن تستمر، أما إذا كنت من كتاب الروايات والقصص فأمامك خياران: إما أن تمشى خلف ذائقة القارئ الذى يشترى الكتب من المولات ومصايف النخبة، والناشر الذى لا يتوقف عن الشكوى ومانحى الجوائز.. فأنت لست فى حاجة إلى أحد، اختر منطقة فى التاريخ «وبرطع» فيها ولن تحتاج إلا إلى مصادر من المكتبة وقليل من الدربة، ولا بأس من تلسين سياسى خفيف، أو تعتبر حياتك الشخصية هى المادة الخصبة التى تنتظر البشرية ولجان التحكيم معرفتها، وإياك أن تتحدث عن عدو بلدك أو حلفائه، الخيار الثانى فهو خيار الجهاد مع النفس ومع الفن ومع التاريخ ومع الواقع، وأن تخلق تعاطفًا مع شخصياتك، ثم تطلق الوحوش كما قال ستيفن كينج، انهِ عملك واغتنم الفرص، قد يكون سيئًا لكن هذه هى الطريقة الوحيدة التى تمكنك من أن تفعل شيئًا جيدًا حقًا، كما نصح ويليام فوكنر، وإذا كان باستطاعتك أن تخبر القصص وتخلق الشخصيات وتبتكر الأحداث بشفافية وصدق، ليس المهم حينها كيف تكتب، كما كتب سومرست موم، فى كتاب «اللا طمأنينة» لفرناندو بيسوا؟ سنتعرف على الكتابة التى سيتعذر عليك الدخول فى عوالمها إذا لم تضع معاييرك كلها جانبًا فى أول صفحة، الكتابة بجناحى المتجرد من كل القياسات، الكتابة التى ستبدو لك كومة من الطلاسم حين تخطو إلى أفقها بذهن مزدحم بضجيج الحياة، الكتابة التى تشترط عليك الوقوف أمامها نقيًا صافيًا كمن ألقى بالحياة كلها وراء ظهره، سئل لماذا تكتب؟، أجاب: لا ينبغى أن تعتقدوا أننى أكتب للنشر، ولا للكتابة نفسها هكذا، ولا حتى لأصنع فنًا، ولا لكى أجعل النثر يتألق ويرتعش، أنا أكتب لكى أمنح برانية كاملة لما هو جوانى، أهم ما كتب بيسوا، لم يكتبه ليُنشر فى حياته، لم يعده ككتاب، ولم يخطط له متخيلًا وقعه على جمهور مفترض، كان انعكاسًا لحياته اليومية ومونولوجاته داخل ذهنه وأحاسيسه، يهرب منها ليرسمها فى فضاء الصفحات البيضاء؛ يتخفف من أحمالها، بيسوا «١٣ يونيو ١٨٨٨- ٣٠ نوفمبر ١٩٣٥» هو شاعر، وكاتب وناقد أدبى، ومترجم وفيلسوف برتغالى، ويوصف بأنه واحد من أهم الشخصيات الأدبية فى القرن العشرين، وواحد من أعظم شعراء اللغة البرتغالية، كما أنه كتب وترجم من اللغة الإنجليزية والفرنسية، توفى والده حين كان الخامسة من عمره، تزوجت أمه مرة ثانية وانتقلت مع عائلتها إلى جنوب إفريقيا، حيث ارتاد بيسوا مدرسة إنجليزية. فى الثالثة عشر من عمره عاد إلى البرتغال لمدة عام، وبشكل دائم فى عام ١٩٠٥. درس فى جامعة لشبونة لفترة قصيرة، وبدأ ينشر أعماله النقدية، والنثرية، والشعرية بعد فترة وجيزة من عمله كمترجم إعلانات. فى عام ١٩١٤ وجد بيسوا أبداله الثلاثة، وهو العام الذى نشر فيه أول قصيدة. بعد وفاته عثر على حقيبة تحتوى على أكثر من ٢٥٠٠٠ مخطوطة عن موضوعات مختلفة منها الشعر، الفلسفة، النقد وبعض الترجمات والمسرحيات، كما أنها تحتوى على خرائط لأبداله، محفوظة حاليًا فى مكتبة لشبونة الوطنية ضمن ما يعرف بأرشيف «بيسوا». اشتهر بيسوا باختراعه شخصيات أدبية، وصل عددها إلى ٨٠ شخصية تقريبًا. قام بمنحها أسماء وميّز آراء كل منها السياسية والفلسفية والدينية، وقد قام كل من هؤلاء الأبدال بالكتابة أو الترجمة أو النقد الأدبى، أشهر اختراعاته هو ألبرتو كاييرو، ريكاردو رييس، ألفاردو دى كامبوس، كان يعبر عن التناقضات بداخله، وزع نفسه على كتاب من اختراعه، لأن الكتابة كانت همه وليس النشر ولا المجد ولا لايكات الإعجاب، أكثر ما يلفت النظر فيما تشهده سوق كتابة الروايات مؤخرًا أن الدافع للكتابة هو التنافس على الجوائز، لا يوجد طموح فنى، توجد شطارة أحيانًا، ولكنها شطارة الباعة الجائلين الذين يراهنون على ذوق الزبون العابر، ولا توجد أيضًا رغبة فى مناقشة عذابات الناس والوقوف إلى جوارهم، هم يقومون بتعرية شخصياتهم ويستثمرون ضعفهم للتدليل على البضاعة، نحن أمام كاتب وليس فنانًا، وتعلم الكتابة له الآن ورش مزدهرة مربحة، نعيش أيامًا لن يحل طلاسمها سوى الفنان الذى تحتاجه البشرية أكثر من أى وقت، رغم كثرة الباعة الجائلين فى حفلات التوقيع وتوزيع الجوائز وعلى منصات التواصل.