القيادة محك المُحنكين
القيادة مهمة صعبة، وتبدو أكثر صعوبة مع تعاظم التحديات وتزايد المخاطر وكثرة التهديدات، وجسامة المواقف بين متأزم ومتعثر ومتفاقم، وكيفية قراءتها تحكمه الخبرة والدهاء والعبقرية والتجربة من مُجرب، يُوصف بالمُحنك في دلالة تجعل من رمز القائد سلوكًا يُحتذى ومن رمزية القيادة منهج يُتبع.
المهنية القيادية والمنهجية الإدارية سلاح قادة المستقبل ومفتاح نجاحهم، فمعترك القيادة وتحدي الإدارة ساحة فضاء واسع، ومنحدر عميق يتفاوت القادة في خوضه بين العبور والتعثر، بمقدار مستوى التعليم والتدريب والتأهيل والاستعداد الفطري، والمكتسب الذي يؤهلهم ويُكسبهم مهارات وأدوات القيادة ضمن دائرة الوعي القيادي، الذي يُعد مُحصلة تأمل وجهد ذهني كبير، تُعززه مهارات عقلية متجددة، وتدعمه ذاكرة حاضرة، وإرادة، وفطنة وحدس وتوقع محسوب. مع جاهزية بالتخطيط، والاستشراف للمستقبل، وتحليل للمعلومات، ودقة في الاختيار فيما بين البدائل، خاصة في الأزمات والمواقف الحرجة، مع تمكن في ضبط الإمداد، والتمويل، والمتابعة، والمراجعة والتقييم، والتقويم المستمر، باعتبارها مجتمعة عناصر تحفيز القيادة وأدوات تمكين القائد.
السلوك القيادي علاقة تبادلية معقَّدة وديناميكية بين القائد والأتباع الذين يؤدون أدوارًا تكاملية فيما بينهم، وفيما بينهم وبين البيئة الداخلية والخارجية لتحقيق الغايات والأهداف، التي يتطلب تحقيقها درجة عالية من العلم والمعرفة، والدراية، وبناء القدرات ورفع الكفاءة الإنتاجية بالتدريب وإكساب الخبرات والمهارات الجديدة في إطار منهج قيادي شامل يوحي وكأن القائد قد قام باستبدال نفسه بهؤلاء الآخرين الذين يمكنهم القيام بنفس الوظيفة والمهمة التي سيقوم بها بنفسه، ومن ثم تمكينهم للمساهمة بأدوار قيادية في مواقع أخرى.
فن القيادة أن يُحدد القائد بداية ما لا يجب أن يفعله وليس ما يجب عليه فعله، وبمقدار معرفة القائد الجوانب من المهمة والوظيفة التي عليه تنفيذها تمامًا ودون تفريط، والجوانب التي عليه أن يتركها للقادرين من الأتباع للقيام بها ليتيح لهم المجال كي يُبرزوا مهاراتهم وقدراتهم على الابتكار والتطوير والتغيير والتحسين والإبداع. وهذه المرحلة هي نقطة الالتقاء بين النضج القيادي والإبداع القيادي الذي يستوعب الحاضر ويستلهم المستقبل.
الوعي القيادي يُسلم بالدور الفاعل والجوهري للتقنية الحديثة في توفير الوقت والجهد والمال لصناعة واتخاذ وتنفيذ القرارات ونقل التوجيهات، وفي التواصل والاتصال وتبادل المعلومات بين مختلف المستويات القيادية والعناصر الإدارية. وليس ذلك فحسب، بل باستمرارية وسهولة التواصل وتبادل المعلومات في نفس اللحظة بين القادة والأتباع، مع إمكانية وصول التغذية الراجعة إلى القادة بقدر عال من السرعة والانسيابية والتتابع، واحتوائها طبيعة تنظيمية مذهلة للحجم الضخم من البيانات والمعلومات التي يمكن إعادة قراءتها بطرق مختلفة وتحليلها أيضًا ببرامج مُتجددة وبأساليب تراكمية مُتعددة ومُتدرجة.
يستقبل قادة المستقبل على منصة القيادة تحديات وخصائص بيروقراطية متجذرة، قد يصعب تنحيتها، تتجسد بمركزية شديدة ما زالت سائدة، يُصاحبها نقص في الكوادر القيادية، مع احتكار للسلطة بين عدد قليل من القيادات، يسير في نسقها تراجع مؤثر في المعرفة والثقافة القيادية، وأُحادية في اتخاذ القرار، وفي سياقها عدم تفويض السلطة بما يتكافأ مع المسئولية. مع ضعف في الهياكل التنظيمية قد يحتاج ترميمه وقتًا أطول، ولم تزل الإجراءات معقدة والأنظمة والتعليمات والأوامر كثيرة ومتكررة، والسياسات غير راسخة. ناهيك عن أن تخصيص الموارد المالية ما زال غير متوازن ويعاني من الهدر، ومنافذ الفساد.
ويبدو أن محور التوازن المعني بتوظيف واستغلال وتوجيه القوى البشرية العاملة تحدياته أكبر من حيث فرص الاختيار والتوظيف والتحيز في توزيع المناصب. مع سوء في توصيف وتصنيف الوظائف، وارتفاع معدلات دوران العمل، وتداخل الاختصاصات. والحال في مسار التدريب ليس على ما يرام ويُعاني من الشلل بعدم الفاعلية والشمولية، وانحراف التدريب عن أهدافه إلى الترفيه والتهرب من مهام الوظيفة.
والمعاناة متعدية إلى نظم المعلومات والتقييم والتقويم والرقابة والمتابعة التي أوجه القصور فيها متجذرة تجذر البيروقراطية نفسها، والتي عدواها انتقلت وانتشرت في القطاع الخاص وإدارة الأعمال، ولم تعد قاصرة على الإدارة العامة.
أهم عناصر الإدارة ورمانة توازنها الاستشراف والتنبؤ والتخطيط الاستراتيجي غير معافى وله معاناته في عدم الدقة والقدرة على توقع الأحداث واستشفاف المستقبل. وليس التنظيم والتنسيق بعيدًا عن التخطيط، فلم يزل دور التنظيم متراجعًا لاسيما في الثقافة العربية الميالة إلى العشوائية أكثر بحكم تركيبتها الثقافية والاجتماعية والسلوكية، ناهيك عن أن التنسيق والتكامل مُغيبًا، وزاد ذلك سواءً إفرازات الصراع التنظيمي، والتسلق الوظيفي، وممارسات التسلط وسوء الخلق والنكاية، وبث الفرقة والانقسام بين العاملين، وشيوع التكتلات غير الرسمية وتناميها بوتيرة جعلت من توظيف نقل أخبار العاملين بعضهم عن بعض ممارسات سلبية يستغلها بعض القادة أفشلت القيادة وانحرفت بها عن مسار النضج والتمكين القيادي، إلى تقويض صناعة القادة ووحل تردي القيادة.
"قادة المستقبل" التحدي القيادي يُحرق نطاق القيادة بمهمات صعبة ومواقف أكثر صعوبة تجعل من المسئولية القيادية شبكة شائكة اللعب على خيوطها محك يُمحص المحنكين، ويُوحي بأن الفشل أقرب منه إلى النجاح. فعمق الوطن العربي ومركزه تتجاذبه التحديات وتتناوشه الحروب، ومحنكي الغرب الذين لفظتهم القيادة، وأصبحوا من العامة مهمشين خارج المنظومة القيادية، ولم تتحقق أهداف مشروعهم الشرق الأوسط الجديد الذي ظل تركيزه على الوطن العربي، لإقامة دولة مؤسلمة في صحراء سيناء يُهجر إليها شعب فلسطين، وعندما تبدد هذا الحلم وفشل هذا المخطط تم إعلان حرب جديدة على فلسطين في غزة ما زالت سيناريوهاتها لم تكتمل، ليظل تأزيم المنطقة العربية مستمرًا، فصراع الحوثيين في اليمن، وتأجيج الحرب في السودان، وبقاء حالة العراق وسوريا بين ألا سلم وألا حرب، وزعزعة الملاحة في البحر الأحمر، لعرقلة تمدد الصين نحو القارة الإفريقية والأوروبية، وتحييد مشروعها "طريق الحرير" الحزام البحري والطريق البري الذي تدفع به الصين منذ نحو عقد من الزمن وقطعت شوطًا طويلًا في تنفيذه لأمس المنطقة العربية التي لم تستقر منذ منتصف القرن الماضي الذي أُعلن فيه قيام دولة الكيان الإسرائيلي، ومنذ ذلك التاريخ والوطن العربي تُفتعل له الأزمة تلو الأزمة، والسجال قائم بين المحنكين من الغرب والشرق وساحة الصراع معتركها الوطن العربي الذي فُرضت عليه المقاومة وسيظل مقاومًا، لكن المشهد معقد، والمهمات الصعبة محك القيادة المحنكة، فهل في الجعبة من محنك؟ يُمهد لاستحضار دائم لمقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب "، عندما أطلق لقب أرطبون العرب على الصحابي المحنك عمرو بن العاص لِشدة دهائِه وعبقريته وبراعته في حصار "القدس" حتى استسلمت.
- رئيس مركز المعرفة العربية للاستشارات