إسماعيل أدهم
ازدادت فى الفترة الأخيرة حدة المساجلات الفكرية، وظهرت موجة غريبة من المزايدة باسم التكفير أو المزايدة باسم التنوير. وراح البعض من هنا وهناك يهلل بأن مصر تتعرض لموجة من الإلحاد، أو أن المؤسسات الدينية تصادر حرية التفكير، حتى أحسسنا بأننا أمام مجتمع مصرى آخر لا نعرفه.
ووجدتنى أعود إلى حادثة مهمة ومثيرة فى تاريخ الفكر المصرى، وهى واقعة صدور كتاب «لماذا أنا ملحد؟» لمؤلفه الدكتور إسماعيل أدهم فى عام ١٩٣٧. وبالقطع سيُصدم القارئ الآن من مجرد عنوان الكتاب، ويُصدم أكثر بأنه طُبع فى مدينة الإسكندرية، لأننا للأسف فقدنا القدرة على التعامل مع مثل هذه الأمور، التى كان المجتمع المصرى لديه قدرة على التعامل معها من خلال مبدأ أن الفكر يواجه بالفكر، ومقارعة الحجة بالحجة، والأكثر من ذلك أن المجتمع المصرى كان يتمتع بمساحة لا بأس بها من رحابة الصدر.
لكن السؤال المهم هنا هو: مَن هو إسماعيل أدهم؟ هو مصرى من الإسكندرية، عندما كانت الإسكندرية مدينة كوزموبوليتانية، متعددة الأعراق واللغات. حصل إسماعيل أدهم على درجة الدكتوراه فى الرياضيات من الاتحاد السوفيتى، وعاد إلى القاهرة. وكانت له بجانب دراساته العلمية، اهتمامات بالأدب والفلسفة. أصدر أدهم كتابه الشهير- وليس كتابه الوحيد- «لماذا أنا ملحد؟» فى عام ١٩٣٧، وهو كتيب صغير، فى الرد على كتاب الشاعر الدكتور أحمد زكى أبوشادى «عقيدة الألوهية».
ويوضح أدهم، فى مقدمة كتابه، تأثره الشديد بـ«دارون» ونظرية التطور، وقراءته كتابيه: «أصل الأنواع» و«أصل الإنسان». من هنا يعرف أدهم الإلحاد- من وجهة نظره- بأن «الإلحاد هو الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه فى ذاته، وأن ثمة لا شىء وراء هذا العالم».
وقد أثار كتاب أدهم جدلًا كبيرًا بعد صدوره؛ إذ صدرت عدة كتب فى الرد عليه تحمل عنوان «لماذا أنا مؤمن؟» لمحمد فريد وجدى، نيابةً عن الأزهر، أو حتى أحمد زكى أبوشادى، الذى وضع أدهم كتابه أصلًا فى الرد على كتابه «عقيدة الألوهية»، أو حتى كتاب محمد جمال الدين الفندى.
وكانت نظرية التطور لـ«دارون»، بعد ترجمة كتاباته إلى العربية آنذاك، مثار جدل كبير فى الأوساط المصرية، نرى انعكاس ذلك فى ثلاثية نجيب محفوظ، خاصةً «قصر الشوق»، فى الحوار المثير بين كمال عبدالجواد، طالب الفلسفة المقتنع بنظرية دارون، والسيد أحمد عبدالجواد والأم أمينة.
المهم فى الأمر أن المجتمع المصرى، آنذاك، كان أكثر تفتحًا وقدرة على استيعاب مثل هذه الصدمات الفكرية. وأن هذا الجدل الفكرى أفرز لنا العديد من الكتابات الفكرية الراقية، من الجانبين، لرموز الفكر المصرى المعاصر. والأكثر أهمية من ذلك أن كتابات إسماعيل أدهم وغيره لم تؤدِ إلى انتشار الإلحاد، بدليل أننا نخاف حتى الآن من انتشار الإلحاد فى مصر، بعد مرور ما يقرب من ٩٠ عامًا على صدور الكتاب.
متى نعود إلى حرية التفكير من جديد، وأن الفكر يُواجه بالفكر، وأن الحجة تقارع بالحجة، والبُعد عن المزايدة باسم الدين أو حتى باسم التنوير. متى نثق نحن معشر المثقفين فى المجتمع المصرى، حتى يثق فينا المجتمع؟.