موجة حارة.. قلب بارد
خلال الأيام القليلة الماضية اجتاحت القاهرة والإقليم موجة حارة ألزمت معظمنا البيوت لا نغادرها إلا للشديد القوى.. سكنت العيون تحتمى بحيطان البيوت بحثًا عن نسمة هواء باردة.. وكوب ماء يرطب القلب.. حالة من السكون سيطرت على الشوارع لم يقطعها سوى لهاث الأبناء الذين يصارعون الوقت لإنجاز امتحاناتهم.
تصادف أن كنت فى قلب الموجة الحارة فى رحلة عمل إلى جنوب الصعيد.. لم أشعر بالصهد وإن جرحنى صمت الصعيد فى لهيب الشمس.. صمت لا أحبه فلم أتعود أبدًا طيلة خمسين سنة عشتها أن أشاهد صعيديًا يحتمى بالمراوح أو التكييفات فى هذه الأثناء.. تعودتهم فى الغيطان.. يحصدون القمح ويدرسونه.. يقلبون باطن الأرض تمهيدًا لزرع جديد.. وفى المساء.. كل مساء.. سامر.. حيث يحكى الكل فيما مضى ويضحكون عما يعيشونه ومنه حتى وإن كان مرًا علقمًا.. يترحمون على مَن رحل.. ويهدهدون الأحلام فى صدور الطالعين.
هذه المرة.. كثيرون غادرتهم سليقتهم الباسمة.. لم تعد لديهم الرغبة فى السؤال عن الأحوال.. لا أحد يفكر مجرد التفكير فى نبش سر الغد.. أحوال الاقتصاد أتعبت الجميع.. أحنت الظهور.. تشعر بأن العيون سارحة فيما هو بعيد جدًا.. حتى مناوشات مباريات الأهلى والزمالك لم يعد لها نفس الحضور.
عودة القطن إلى المزارع وحدها فتحت الأبواب المغلقة.. هجر الصعايدة زراعته منذ سنوات لأسباب هم أنفسهم لا يذكرونها.. فقط يذكرون أيام العز.. أيام كانوا يحددون مواسم أفراح أنجالهم بجنى القطن وبيعه.. عاد القطن المصرى إلى أحضان الغيطان مجددًا.. لكن أحد الشباب الذى تعب من شرب المياه المعدنية زجاجة تلو أخرى ليقاوم الحر الغريب الذى حاوطنا إلى ما بعد منتصف الليل.. سألنى فجأة: هل تفكر الحكومة فى إعادة بناء مصنع قطن سوهاج مرة أخرى.. لقد زرعنا القطن.. وطرح العام الماضى يبشر بحصاد طيب فى العام الجديد.. فهل سيتم تصديره فيما نستورد الأقمشة الرديئة من هنا وهناك... سمعنا عن تجديد «غزل المحلة» وتطويرها فهل سيحدث ذلك فعلًا؟... مجرد سؤال.. رماه صاحبنا فى القعدة ولم ينتظر إجابة.. لكن رفقاء السهرة راحوا يتحدثون عن الصناعة.. هم يتابعون جيدًا ما يحدث فى قطاعى الزراعة والنقل.. ويفكرون فيما بعد.. هم يشاهدون بأعينهم مطالع ومنازل الكبارى والطرق الجديدة الواسعة.. يشاهدون آلاف الأفدنة التى جرى ويجرى استصلاحها.. يشكون من أسعار المبيدات الغالية وغشها.. من أسعار الطاقة وارتفاع أجر العمالة اليومية.. لكنهم مستمرون فى السؤال.. وبعضه.. بعض السؤال.. لا إجابة له.. لماذا بعنا مصانعنا.. خردة فى زمن عاطف عبيد.. ها نحن نحتاجها الآن؟
الصعيد الذى رأيته معجونًا بالزراعة.. لا يفرح الصعيدى بشىء مثلما يفرح بخضار الأرض.. هم فلاحون بالفطرة.. لكنهم يحلمون الآن بمصانع جديدة عوضًا عن تلك التى ذهبت فى ظروف غير غامضة.
قلت لأحدهم: أعرف أن هناك مجمعًا لمصانع الزيوت من المنتظر أن يُبنى على أرض سوهاج.. فلم يلتفت.. فقط أكمل.. محتاجين مصنع غزل.. ومصنع بصل.. كيلو زيت البصل بيجيب ملايين.. وبصلنا أحسن بصل فى العالم.. حدثه جاره فى قعدة منتصف الليل عن أهالى الأقصر وكيف أنهم يجففون الطماطم ويبيعها المصدرون بآلاف الدولارات.. عن زرع الشمر والكمون.. وعن أسعار الفاصوليا التى عوضت خسارة البصل.. عن الثوم وكيف قفز إلى أرقام غريبة.. حديثهم عن التصدير سحبهم رغمًا عنهم إلى الصراعات التى تجرى على بُعد أميال منّا.. وكيف أن هذه الصراعات التى تجرى فى غزة وأوكرانيا وبعض دول إفريقيا تهدد محاصيلهم التى يفكرون فى زراعتها فى الموسم الجديد.. وسرعان ما عادوا إلى الداخل وكأنهم يهربون من سيرة الحرب.. فسأل أحدهم لماذا لا تتدخل الزراعة وتعيد نظام الدورة الزراعية بدلًا من غرق الأسواق بمحصول معين؟
أغلب الموجودين بالسهرة يعملون فى العقارات.. ولتوقفهم عن العمل عاد بعضهم لزراعة ما يملك من أرض.. أغلب الشباب يسافرون إلى الخليج.. أسعار عقود العمل وصلت إلى نصف مليون جنيه.. والبديل هو عملهم فى الزراعة يستأجرون بعض الأفدنة فى الصحراء ويزرعونه.. بعضهم لا تعجبه الزراعة.. ولا يجد مستقبله فيها.. هى تستطيع أن تفتح البيوت، لكن لا تبنى بيوتًا جديدة.. وحده حلم السفر يطاردهم.. وفى كل الأحوال هم لا يتوقفون عن العمل.. عن الحلم.. حتى وإن أجهدت العيون وامتلأت الجباه بعرق الموجات الحارة.. فالقلوب لا تزال رطبة بالأحلام.