رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المسألة المصرية على أصولها

العودة إلى كتاب «فى أصول المسألة المصرية»، لصبحى وحيدة، تبدد الوحشة، خصوصًا فى لحظات الارتباك الفكرى والثقافى، وغياب المرجعيات التى تتمتع بإجماع ما، ويمكن الاحتكام إليها، لأننا فى أيام يعتقد أصحاب الصوت العالى أنهم على صواب، وعزوف الأنقياء عن مجابهة «بتوع تجديد الفكر» الأثرياء الذين يعتقدون أنهم يعرفون مصلحة الشعب المصرى أكثر من الشعب نفسه يهدد بكارثة. صدر الكتاب سنة ١٩٥٠ وباع ٨٠ ألف نسخة، وأصدر الحاج مدبولى طبعة ثانية مطلع ثمانينيات القرن الماضى، وقبل عشر سنوات صدر عن هيئة الكتاب بمقدمة رائعة للدكتور أنور عبدالملك، الذى ذهب إلى «وحيدة» عقب صدور الكتاب بتكليف من شهدى عطية الشافعى، سكرتير الحزب الشيوعى المصرى، بحثًا عن إجابة للسؤال التالى: كيف يمكن أن يكون الأمين العام لاتحاد الصناعات المصرية، أى قلب الرأسمالية الصناعية فى مصر، خليفة إسماعيل صدقى المختار على خطوط متوازية وساحات واسعة من التواكب، بل والاتفاق مع القطاع التقدمى للحركة الوطنية المصرية؟، أيامها كان قطاع كبير من النخبة من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة أن مشكلة مصر الوحيدة هى الاحتلال الإنجليزى، الكتاب اعتبر أنه لا مخرج من الأزمات السياسية والاجتماعية والثقافية إلا بحل المشكلة الاقتصادية، وأنه ينبغى على مصر أن «تقلع عن القنوع بنفخ الأوداج والضجيج الفارغ، وتواجه جوهر النقص فى حياتها، أى فقر الدم هذا الظاهر فى أوصال مجتمعنا جميعًا، بتنقيته وتغذيته وإنعاشه، وهو عمل يقع غالبه من دائرة النشاط الاقتصادى»، ويرى أيضًا أن إصلاح التعليم لا يكفى لإحداث النهضة المطلوبة «الحقيقة هى أن التعليم لن يغنى عن المتعلمين شيئًا ما داموا لا يجدون فى الحياة اليومية ما يتصل به من ظواهر يستطيعون بمعالجتها أن يطبقوا علمهم، وينموا ملكاتهم، ويرتفعوا إلى الابتكار، وإن انتعاشة واحدة تصيب حياتنا الاقتصادية تستطيع أن تكسب هؤلاء المتعلمين ما يمتاز به أقرانهم فى البلاد الأخرى، وما لا يستطيع التعليم النظرى أن يزودهم به». تاريخ مصر منذ الفراعنة وحتى دخول العرب جاء فى الفصل الأول من الكتاب، وفيه يرى أن مصر تغيرت تغييرًا عميقًا وشاملًا بعد دخول العرب، فصار أبناؤها يفكرون بالعربية ويشعرون شعورًا إسلاميًا وليس فرعونيًا أو مسيحيًا ويتنفسون فى جو آسيا المغولية بعد أن كانوا يتنفسون فى جو البحر المتوسط، مخالفًا بذلك فكر طه حسين ولويس عوض، وفى عصر المماليك انهارت الثروة الزراعية والعقارية والصناعة المصرية، وعندما دخل نابليون مصر كان تعدادها ٢ ونصف مليون، وكانت القاهرة مدينة نصف خربة، كما وصفها الجبرتى، وأن فساد الإمبراطورية العثمانية ثم التأثر بالفرنسيين والإنجليز كوّن طبقة من المفكرين يحاولون الإصلاح بفرض قواعد على المجتمع. صبحى وحيدة ولد سنة ١٩١٢ وحصل على الدكتوراه من جامعة روما فى القانون، وبعد عودته عمل فى سكرتارية اتحاد الصناعات المصرية، حيث التقطه رجل الرأسمالية القوى إسماعيل صدقى باشا وممثل اليمين منذ الثلاثينيات، وهو الذى عيّنه أمينًا عامًا للاتحاد عام ١٩٥٠، هذا المفكر الشاب ركز فى تحليله، كما كتب أنور عبدالملك، على الحالة الداخلية لمصر، أو بوجه أدق على عملية الصياغة التاريخية للمجتمع المصرى عبر الأجيال، بدلًا من الاكتفاء بالتنديد بالاحتلال، وإن كان موقفه من الاحتلال والتبعية عميقًا لا هوادة فيه. تم قتل «وحيدة» أمام عمارة الإيموبيليا، حيث مكتبه، على يد فراش كان يعمل عنده يوم ١ يوليو ١٩٥٦، واستراب عبدالملك فى الحادث، رابطًا بينه وبين حادث المناضل الوطنى عزيز فهمى الذى كان مرشحًا لقيادة الوفد المصرى بعد مصطفى النحاس، الذى قُتل فى حادث تاكسى على طريق القاهرة الإسكندرية الزراعى، إذ قيل إن التاكسى وقع فى الرياح، فإذا بسائقه يخرج سالمًا بينما فهمى يفقد عمره على المقعد الخلفى. الفراش جاد جاد المولى اعترف بالجريمة، كان عمره ٤٥ عامًا، كما كتب سعيد الشحات فى ذات يوم، ويعمل ساعيًا فى اتحاد الصناعات، ويتقاضى راتبًا ١٨ جنيهًا شهريًا تكفى نفقاته، لكنه استقال وأصبح عاطلًا، وبدا من اعترافاته أنه يلقى بمسئولية ما حدث له على الدكتور صبحى، لكن خيرى حسن كتب فى الوفد، قبل ثلاث سنوات، أن القاتل تقدم باستقالته ليحصل على مكافأة نهاية الخدمة ليعمل بها فى التجارة، وحاول الدكتور صبحى وحيدة فى البداية إقناعه بخطأ هذه الخطوة ليعدل عنها، لكن جاد المولى لم يستجب، وفى النهاية استقال وتم منحه مكافأة قيمتها ٣٨٥ جنيهًا بتدخل من الدكتور صبحى، بعد أن كان يستحق ١٨٧ جنيهًا فقط. 

أنفق «جاد المولى» ببذخ حتى ضاعت مكافأته وفقًا لاعترافات زوجته الثانية شريفة عبدالله أمام النيابة، فتوجه إلى الدكتور صبحى ليرجوه العودة للعمل، لكن الشئون القانونية لم توافق على طلبه، ومن هنا بدأ تفكيره وتخطيطه لتنفيذ جريمته، وبسببها قضت المحكمة بإعدامه!