سوهاج بتبتدى من جديد
لسنوات طويلة كانت فكرة أن تنظر العاصمة لبلدنا فى أقصى الجنوب نظرة محبة وعطف أمر فى عداد الأحلام.. أُهملت الشوارع والبيوت والترع.. وشعر الناس أن الحكومة التى تعيش فى تلك المدينة البعيدة تنكرهم وتتجاهلهم.. فنقح العرق الصعيدى وبادلوها تجاهلًا بتجاهل والإنكار بإنكار أشد.. راحوا يبحثون عن أنفسهم وحياتهم وأحلامهم فى أماكن أخرى.. سافروا إلى ليبيا والعراق فيما عرف بالهجرات الأولى مطلع سبعينيات القرن الماضى.. قبلها كان المسافرون خارج الديار قلة.. بعضهم للعمل فى بعثات الأزهر لإفريقيا وآسيا.. وبعضهم للتدريس فى إعارات خليجية محدودة وبدعم من حكومات ناصر لخدمة فكرة إحياء القومية العربية..ابتلعت تلك الهجرات آلاف الشباب ومن بعدها هجرات الخليج الثانية... يعمل هؤلاء فى كل المهن وفى مقدمتها العقارات.. وعاد هؤلاء ليبنوا بأنفسهم وأموالهم ما حرمتهم الحكومات منه.. وزاد عِندهم أكثر وتجاهلهم أكثر بعد انتشار ظاهرة تجريف الأراضى الزراعية واستبدالها بالمسلح.. وتظاهر الموظفون من ممثلى الحكومة فى المحليات بالطناش بمقابل معلوم.. وكلما احتاجت حكومات الحزب الوطنى لأصوات الناخبين فى البرلمان منحتهم بعض التسهيلات وبعض عمدان الكهرباء.. فى المقابل دُمرت البنية التحتية تمامًا... وانتشرت أمراض الفشل الكلوى والسرطانات بشكل غير مسبوق.. وبِيعت المصانع التى كانت تعتمد عليها زراعات المحافظة الفقيرة والأشهر عالميًا فى ذات الوقت فى زراعة البصل والقطن... سنوات طويلة يحلم أبناء المحافظة بنقطة مياه نظيفة.. بمصنع جديد يعيد أمجاد مصنعى القطن والبصل اللذين باعتهما حكومة عاطف صدقى... وتم تقطيع أرضهما بالمتر لتحويلها إلى مساكن.. ولا أحد يستجيب!! اليوم... تعود الحكومة وكل قيادات الدولة إلى مدينة مينا موحد القطرين... حاضنة رأس أوزوريس.. بلد المواويل.. لكتابة موال مختلف... لأول مرة على تلك الأرض الصاعدة... يتم بناء ثلاثة فنادق جديدة على أحدث الطرز لخدمة السياحة والسواح.. وفى الطريق أكثر من فندق.. ما يعنى موارد مالية وفرص عمل لأهل المحافظة المطاردة للعمالة.. مشروع محترم لتسويق البصل السوهاجى إلى كل أسواق العالم لخدمة مزارعيها.. دعم غير محدود للحرف التراثية مثل التلى والنسيج فى أخميم... وقد شرح لى الوزير طارق الفقى بسلاسة وود كيف يعملون على مجاراة ثقافة العامل والعاملة البسيطة لضمان استمرار توارث هذه الحرف التى كادت تنقرض.. مشروع كبير وخرافى واستثمار غير مسبوق على هذه الأرض بعشرة مليارات دولار لاستخراج الكهرباء من طاقة الرياح.. ثلاثة محاور جديدة تستعد المحافظة لافتتاحها لربط شرق المحافظة بغربها فى دارالسلام والمراغة... امتداد جديد للكورنيش الشرقى يعمل به مهندسون وعمال فى عز الصهد... حالة من البشر تسرى فى شوارع البلد التى نسوها لزمن طويل... قبل أن التقى الوزير اللواء طارق الفقى لأكثر من ساعتين... تحدث فيها الرجل بمحبة بالغة عن أهل سوهاج وما يستحقونه... كنت قد زرت أكثر من قرية وعلى مسافات متباعدة فى شرق البلد وغربها من جنوبها إلى شمالها... يشكو الأهالى من تكسير الشوارع لكنهم فرحون فى نفس الوقت بوصول مواسير الغاز الطبيعى إلى قراهم.. وبجانبه خطوط الفيبر.. والصرف الصحى فى وقت واحد.. يعانون من رديف الأعمال لكنهم فرحون بما يحدث... وينتظرون المزيد خاصة فى قرى حياة كريمة.. حيث يوجد أكثر من ١٥٠٠ مشروع انتهى العمل فى معظمها... نهار سوهاج غير ليلها.. قراها غير مدنها.. وقد تغير ليل المدينة كثيرًا فيما امتلأت بالمشروعات الترفيهية... سواء فى عرب محروس... أو سوهاج الجديدة التى أصبحت قطعة من التجمع.. آلاف الشباب فى المطاعم وبعضها برندات لعلامات أوروبية... وأكثر ما أسعدنى تجارب بعض الشباب ومنهم مهاجرون من بحرى ذهبوا للاستثمار هناك... لأول مرة تحدث هجرة عكسية... شابة مثلها عشرات باحثة ومغامرة بَنت مصنعًا لإنتاج الأخشاب من مخلفات الموز.. نجاح تجربتها وتصدير منتجاتها لكل ربوع العالم شجع الكثيرين من الشباب على المغامرة والتفكير فى صناعات جديدة وغير تقليدية... باختصار هناك على الأرض ما يستحق أن نفرح به... وأن نقتسم ابتسامة طيبة مع أهلنا فى البلد التى عانت طويلًا... وابتسمت أخيرًا...