مريم هرموش تكتب: حسن مدن.. و"ترميم الذاكرة"
قرأت له قبل أن ألتقيه، لأول مرة، هنا في القاهرة بمجرد أن وصل إليها ليتسلم درع تكريمه باعتباره شخصية العام الثقافية عن عام 2023.
كانت سعادتي غامرة بلقاء الكاتب البحريني الدكتور حسن مدن، ومما ضاعف من هذه السعادة أنني لمست فيه النمط الذي أحترمه في الكاتب الكبير، وبعد أن هنأته بهذا التقدير الكبير لعطائه، دعوته للقاء عدد من الشخصيات التي تشبهه إلى حد كبير وعلى فنجان شاي جلسنا نتحدث وتبادلنا المؤلفات ومنها هذا الكتاب الذي لم أتركه إلا بعد أن انتهيت منه.
عنوانه ملفت يترك أثرًا في النفس منذ الوهلة الأولى التي تقع عيناك عليه. وعلى الرغم من عدد صفحاته التي لا تتجاوز 118 صفحة إلاّ أنه يحمل بين دفتيه نصًا ثريًا على المستويين الإبداعي والإنساني بل والفكري أيضًا.
وهو ويكشف لنا من خلال تجارب حياتية خاضها عن مدى هشاشة النفس البشرية وضآلتها حين تصطدم بجدار المجهول، فترتد إليها الأسئلة الوجودية بلا أجوبة.
حيث يختزل لنا الكاتب الكبير الدكتور حسن مدن في أسلوب سلس بسيط وشيق، أحداثًا سياسية غيرت وجه وطننا العربي على الصعيد العام، وكان شاهدًا عليها، هو وأبناء جيله ممن عاصروا فترة السبعينات من القرن الماضي، والتي عبر عنها الكاتب بقوله: "بالنسبة للكثير من أبناء جيلنا فإن السبعينات كانت تمثل مرحلة مزهرة، فهي الفترة التي بدأت فيها أذهاننا تتفتح على الحياة وأسئلتها.
كان جيل هذه الفترة حالمًا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن السبعينات هي نفسها التي كانت بداية العد العكسي للنهوض الوطني والقومي".
أحداث بالغة الأهمية يعرج عليها الكاتب برشاقة بالرغم مما تحويه في طياتها من مرارة يعتصر لها القلب.
فما كابده منذ فترة شبابه التي لم يكن يتجاوز حينها السابعة عشرة من عمره لم تكن بالأمر اليسير خصوصًا على من هم في مثل سنه، لتنسل بعدها السنين من بين يديه كالقابض على الماء، آخذة معها كل ما تحمله التفاصيل الجميلة التي يمر فيها المرء في مراحل عمره المختلفة. وإذا به يصحو من غفوته فجأة على هذا الرجل المثقل بأعباء السياسة والحرية والعدالة، والحياة بكل ما تحمله من تناقضات وأسئلة وجودية كفيلة بأن تتسبب في تشتت وتشظي للذات.
أما ثنائية "الغربة والحنين"؛ فكانتا النسيج الأساس الذي شَكَّل معظم الأحداث التي جاءت في إطار غربة طويلة، ممتدة لأكثر من ربع قرن؛ غربة قسرية إجبارية، بسبب الظروف السياسية التي مرت بها بلاده ـ البحرين في ذلك الوقت.
وفي غمرة البوح، يطرح الكاتب الكبير حسن مدن سيرته الحياتية عبر تلك الغربة التي تطارد بها الأوطان أبناءها، وتلفظهم خارجها إلى المنفى، مستخدمًا تقنية "الاسترجاع" بحرفية متقنة لا تربك أو تشتت القارئ بل تجعله يتماهى معها.
ومما يجدر بالذكر أن حسن مدن لُفظ من وطنه وهو شاب في مقتبل العمر إلى المنفى، ثم عاد إليه وهو على مشارف الخمسين، ليجد كل ما ساقه الحنين إليه قد تغير؛ فالأطفال الصغار كبروا.. والكبار فارقونا.. وضاقت الأماكن بساكنيها.. وجف النخيل الذي كان يزين الطرقات! وما بين هذين العمرين، كانت له محطات في العديد من المدن العربية؛ ومنها القاهرة وبيروت والشارقة. والدول الغربية أيضًا، ومنها: روسيا وألمانيا وفرنسا وغيرها.
وكل محطة حملت معها ذكريات ظلت قابعة في الذاكرة وشكلت الوجدان، إلاّ أن القاهرة وبيروت كان لهما الوقع الأكبر على نفسه، وأبت روحه أن تغادرهما بعد أن اضطرته الظروف إلى ذلك، مما فاقم لديه الشعور بالغربة والحنين إلى حضن بلده الأم - البحرين، عله يزيل بعضًا مما أصاب تلك الروح الحائرة من وحشة.
أذهلني وصف "مدن" للغربة، وأقصد هنا غربة النفس والروح لا غربة المكان، وذلك حين عاد بعد طول غياب ليحتضن ما بقي من ذكريات ساقه إليها الحنين في بلده، فإذا به يبتلع خيبات جديدة تكسرت على روحه واحدة تلو الأخرى، ليتمنى بحسرة، لو أنه قد أبقى على تلك الذكريات الجميلة التي التقطتها عدسة الطفولة ببراءتها خلف جدران الذاكرة.. "فما أكبر المسافة بين مخيلة الطفولة وصرامة هذا الواقع!".
ولا عجب إذا قلت إن الكاتب الكبير حسن مدن دون قصد منه، أيقظ بداخلي الكثير والكثير من الذكريات الموجعة التي لا يزال يعتصر لها القلب بمجرد أن تتسرب الى الذاكرة، ولا سيما حين استرجع مشاهدًا من الحرب الأهلية اللبنانية، تلك التي سرقت منا براءة طفولتنا وطبعت بشاعة الدمار والقتل في مخيلتنا، وعلمت على أرواحنا ورافقتنا كظلنا في رحلة اغتراب طويل عن الوطن.
"الحنين إلى الأماكن والأشياء والأشخاص يفجر بداخلنا حنينًا، من نوع آخر، إلى صورة تلك الوجوه والأشياء والأماكن كما طبعت في الذاكرة لأول مرة، حين خلفناها وراءنا ورحلنا عنها، إلى صورتها قبل أن تتحول إلى ذكريات؛ حين كان لها مذاق آخر.
لقد نسينا هذا المذاق. وكل ما نفعله إننا نحاول فقط استعادة حلاوته أو مرارته في فمنا ولكننا... لن نفلح أبدا."
النسيان هو وسيلة للهرب من حضور الذاكرة، لكنه أشد مكرًا، فنحن قد نتناسى أشياءً في حياتنا لكننا أبدًا لا ننسى.
وهذه بعض المقتطفات من "ترميم الذاكرة":
"أن ترى تراب الوطن ونخله وبيوته وبعض شوارعه، ولكن من خلف الزجاج. لا تطأ قدمك ترابه، ولكن عينيك تراه، ليستثار في نفسك ولع وغصة".
"نحن لا نختبر الزمن إلا فيما يتركه من آثار على الأجساد والوجوه. خارج ذلك نحن لا نعثر على أثر لهذا الزمن، لا نمسك به. الزمن هو الأطفال وقد غدوا فتيانًا أو فتيات. هو نحن وقد أصبحنا آباء أو أمهات، لم نعد شبانًا وإنما كهولًا وربما شيوخًا أيضًا."
"وددت حينها لو أني احتفظت بصورة الساحة في الليالي المقمرة بمحاذاة غابة النخل في ذهني، ليتني لم آت إلى هنا لأرى الساحة كما هي في الواقع. ما أكبر المسافة بين مخيلة الطفولة وصرامة هذا الواقع!"
"النسيان هو ذاكرة أيضًا. نلجأ إليه وسيلة من وسائل الهروب من سطوة حضور الذاكرة، لكنها أشد مكرًا منا ومنه... النسيان خديعة ابتكرناها كي نتغلب على الألم الناجم عن الفقد أو الخيبة أو الأذى".