بابوات مصر 2
الوطنية تتحدث!.. الوطنية الحقيقية ليست شعارات نرددها ونهتف بها، بل هى مواقف نتخذها عند الضرورة، وهو ما فعله رجال الكنيسة المصرية عبر عصور مختلفة وكأن اتفاقًا ما تم بينهم برغم تفاوت السنوات التى وضعت كل منهم فى اختبار حقيقى، ففى الجزء الأول من هذا المقال لخصنا موقف البابا تواضروس من جماعة الإخوان وشرحنا أهمية هذا الموقف الذى اتخذه بمنتهى الوعى والوطنيةو ولولا موقفه لكان انشق الصف الوطنى إلى الأبد، ونفس الموقف كان قد اتخذه البابا بطرس الجاولى، البطريرك رقم «109»، الذى رفض وضع أقباط مصر تحت حماية قيصر روسيا فى مواجهة بطش محمد على باشا والى مصر.
الموقف ذاته اتخذه البطريرك رقم 112 للكنيسة القبطية البابا كيرلس الخامس بعد قرابة المائة من زيارة الأمير الروسى للبابا بطرس الجاولى خلال فترة الاحتلال البريطانى، حين سعى الإنجليز كعادتهم إلى التفرقه بين عنصرى الأمة المصرية وبذر بذور الفرقة بينهما، فأرسلوا مندوبهم السامى، الذى زار البابا كيرلس الخامس يساومه على حماية التاج البريطانى للأقليات فى مصر، فما كان من البابا العظيم إلا أن انتهره قائلًا: «يا ولدى إن الأقباط والمسلمين منذ أقدم العصور يعيشون جنبًا إلى جنب، ففى البيت الواحد يتعايشون معًا، وفى المصلحة يجلسون إلى مكاتب مشتركة، ويأكلون من أرض طيبة واحدة، ويشربون من نيل واحد، ويتلاحمون فى كل ظروف الحياة، فى السراء معًا وفى الضراء معًا، ولن يستطيعوا أن يستغنوا بعضهم عن بعض، ولن نطلب حماية نحن الأقباط إلا من الله ومن عرش مصر»، فخجل الرجل وأبلغ حكومته بهذا الموقف الحكيم فعرف الإنجليز أن الوحدة الوطنية فى مصر قوية».
فلم يستطع المندوب السامى «اللورد كرومر» إلا أن ضمن تقريره بهذه الشهادة التاريخية وكتب لدولته: «إن الفرق الوحيد بين القبطى والمسلم هو أن الأول مصرى يعبد الله فى كنيسته والثانى يعبد الله فى مسجده».
وبعيدًا عن السياسة فقد أسهم بابوات مصر فى توطيد العلاقة بين عنصرى الشعب المصرى من خلال التعليم والثقافة، وبرز دور البابا كيرلس الرابع البطريرك «110» للكنيسة القبطية الملقب بأبى الإصلاح الذى اهتم بنشر الثقافة فى مصر وأول من دعا إلى تعليم الفتاة المصرية، وأسس العديد من المدارس ووضع فيها شرطًا أن التعليم فى هذه المدارس يشمل جميع أبناء الأمة دون تفرقة بين مسلم ومسيحى، وهو أول من أنشأ مكتبة عامة فى المدارس المصرية وشارك فى الإشراف على مدارس الأقباط رموز من العلماء المسلمين، فى مقدمتهم الشيخ رفاعة الطهطاوى.
ومن المواقف المهمة فى حياة البابا كيرلس الرابع عندما دافع عن وطنية أقباط مصر ضد شائعة طلبه من الخديو إسماعيل بإعفاء الأقباط من الخدمة العسكرية، وقال حينها: «حاشا أن أكون جبانًا بهذا المقدار حتى لا أعرف الوطنية أو أفترى على أبنائى الأقباط بتجردهم من محبة وطنهم وعدم الميل لخدمته والدفاع عنه وحماية حدوده وأرضه».
أما حبيب المصريين البابا شنودة الثالث «1971 – 2012»، فقد شهدت فترة توليه الباباوية مواقف عديدة، ويعد أخطرها موقفه من التطبيع مع العدو ورفضه زيارة أقباط مصر إلى القدس قبل تحريرها وإعلانه الشهير: «لن ندخل القدس إلا وأيدينا فى أيدى إخواننا المسلمين» حتى لُقب بـ«بابا العرب».
واستمرت مواقف البابا شنودة الداعمة للقضايا الوطنية حتى صدامه مع الرئيس السادات، ورغم ظهور بعض المعارضين له الذين اعتبروا أن البابا مارس السياسة أكثر من اللازم وأدخل الكنيسة فى معارك سياسية، ومع ذلك دافع البابا عن ثوابت الكنيسة فى دعم القضية الفلسطينية، وفى عام 2002 عقد البابا شنودة مؤتمرًا شعبيًا كبيرًا فى الكاتدرائية المرقسية بعد تحديد إقامة الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات دفاعًا ودعمًا منه للقضية الفلسطينية والقضايا العربية، ويذكر للبابا شنودة دعمه للجبهة خلال حرب أكتوبر 73، حيث قام بعدة زيارات والتقى الجنود والقادة، ووفرت الكنيسة مساعدات من الأدوية أثناء فترة الحرب.
أما فى ملف منابع النيل فللكنيسة المصرية دور تاريخى مهم مع الكنيسة الإثيوبية أسهم فى الحفاظ على الحقوق المصرية فى مياه النيل، ولو كان هذا الدور باقيًا لتغيرت العلاقات وتبدلت المواقف، وهو ملف مهم سيأتى يومًا لنفتحه.
ونختتم المقال بجزء من مقولة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين عن الكنيسة المصرية بقوله: «الكنيسة القبطية مجد مصرى قديم ومقوم من مقومات الوطن المصرى».. حمى الله مصر وشعبها.