قصة كرامة
الحروب فرصة لنتذكر كم يمكن للعالم أن يكون بشعًا، وكم السياسة دون قلب، وكم يمكن بسهولة إخراج أسوأ ما فى الإنسان، الحروب كانت وما زالت مصدر الشرّ فى العالم، ولكن أيضًا هى الشر الذى لا يمكن قراءة التاريخ دونه.. ولا نتعجب إذا كان مركز الحروب دائمًا هو «الكرامة».
الإهانة لا تُنسى وتولِّد انفجارًا، الدول تتحرك بسبب «إذلال ما» تعرضت له يومًا ما، فالصين تحتفل بيوم الإذل الوطنى، لإحياء ذكرى الإساءات التى تعرضت لها من اليابان والدول العظمى فى القرنين التاسع عشر والعشرين، والهند ما زالت تتذكر الاستعمار البريطانى المُهين وتحاربه من داخلها، وتركيا ما زالت تحاسب العالم على انهيار الدولة العثمانية، وروسيا تحاول مجددًا أن تعيد أمجاد الاتحاد السوفيتى، والولايات المتحدة لا تزال تتذكر إهانة ١١ سبتمبر.
الدول تنتفض وتحارب بعد إهانة، والهدف هو استرداد الكرامة التى دومًا تصبح المحرك، واللاعب الرئيسى.
الحرب الجارية فى غزة هى مثال آخر على «حروب الكرامة»، فهجوم ٧ أكتوبر بصورته الوحشية الفظيعة، من خطف وقتل وانتهاك الإسرائيليين سبَّب صدمة كان من الصعب تجاوزها بحرب عادية، فحماس وجّهت لإسرائيل ضربة ثقيلة جدًا ستُكتب فى التاريخ كحدث مفصلى، ولهذا كانت الإهانة فى مركز اتخاذ القرار فى إسرائيل، وكانت الحرب على غزة من أجل استرداد الكرامة.. هذه هى الحقيقة سواء أعجبت بها أو لا.
قادة حماس، وعلى رأسهم السنوار، فهموا هذا، وفهموا التداعيات، وفهموا إلى أى مدى ستخرج هذه الحرب الشرور، لكنهم أرادوا إذلال إسرائيل أكثر من أى شىء وفوق أى ثمن.. حتى لو كان الثمن موت المدنيين وتدمير قطاع غزة.
يحيى السنوار ليس الرجل الذى بإمكانه أن يأخذ الأموال القطرية كل شهر، ويسعد بفتح المعابر وإدخال الطعام، وخروج العمال من القطاع للعمل فى إسرائيل برواتب مجزية، ويحنى رأسه من أجل سياسة الهدوء مقابل الهدوء.. السنوار أراد حدثًا يهز العالم، ويعيد القضية الفلسطينية على جدول أعمال العالم. وليكن ما يكون.. السنوار يعلم أن معاناة الفلسطينيين هى إذلال، فحصار سكان غزة بشكل كلى هو إذلال، وحصار ٥ ملايين فلسطينى بشكل جزئى فى الضفة، هو جرح مفتوح يحتاج لرد عنيف.. وأيضًا هذا من أجل الكرامة.
حتى الدول العربية ليست بعيدة عن هذه المعادلة، حتى لو أقام بعض الدول العربية علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، فإن الشعور بالكرامة ينهض عندما تضرب إسرائيل الفلسطينيين.
فى إسرائيل، لم يفهموا هذه الحقيقة، وكان مفهوم «الردع» يخيم على الأجواء، فكان يتردد كثيرًا فى إسرائيل أن «حماس» مردوعة، حزب الله مردوع، إيران مردوعة، ولن يحدث شىء، حتى استيقظت إسرائيل يوم ٧ أكتوبر على واقع مختلف، حسب مقولة نائب الرئيس الأمريكى السابق، سبيرو أغنيو، عندما قال: «السفلة غيّروا القواعد ولم يُعلمونى».
إسرائيل تعرف بالضبط أين ينام كل مسئول إيرانى، وبأى سيارة يسافر أبناء وأحفاد إسماعيل هنية، وتتصرّف كالعمياء عندما يدور الحديث بشأن تحليل وفهم نيات الهجمات، لأنها لم تفهم قط مفهوم الكرامة الفلسطينية، بينما فهم السنوار مفهوم «الكرامة الإسرائيلية».