أيمن السميري يكتب: "خلف الُحجب" لمريم هرموش متاهة البحث عن جوهـر مراوغ
هذه رحلة استثنائية وُلدت من رحم تجربة الفقد والفراق، لتصبح الرحلة ممرًا للتساؤل الحائر عن علة كينونتنا، عندما نكتب مدفوعين بالألم ومرارة التساؤل، فنحن بالقطع أمام عمل يتوسل بالصدق، والدهشة، وحيرة ما بعد الصدمة. هكذا خرجت رواية "خلف الحُجب" إلى الوجود، كتساؤل كبير لمريم هرموش تجاوز مرحلة الصدمة إلى الألم، وما بعده من أسئلة الموت والحياة.
نحن إذًا أمام عمل تتعين قراءته بالتشوف، والاستبصار كما تقول الأدبيات الصوفية، وبحيازة المعنى والغاية كما تخبرنا الفلسفة. في أجواء وعوالم موغلة في الحلم حينًا، والاستبطان الكابوسي أحيانًا؛ يبحر بنا الراوي في بحث حائر عن جوهر الحب، وحقيقة الألم والفراق. رحلة بدت كمعراج علوي، وسفر في التساؤل، تتبدى فيه محطات الوصول كسراب ممتد، فهو وصول يفضي إلى حيرة جديدة، حيث تصبح الإجابات مراوغة، ويستعصي الارتواء بيقين شاف، فلا يلبث المعراج أن يتحول من ارتقاء إلى الأعلى إلى سقوط حر غرائبي يستكمل رحلة البحث المستمرة.
في قرية بدت كمسرح مناسب لأسطورة، أو حكاية من تلك الحكايات الخيالية Fairy Tales يستدرجنا الراوي بسلاسة السرد إلى محكية صوفية تمنحك الحكمة والمفاتيح والعلامات، لكنها لا تمنحك الارتواء الكامل بالحقيقة، تمنحك الطريق، وتوفر لك أسباب الرحلة، لكنها لا تمنحك محطة للوصول تاركة تساؤلاتك تقودك إلى المعنى. سيد المسرح في الرحلة هو يونس المعمر، حارس السر، غريب الأطوار، بغموضه المكاني على قمة الجبل، وغموضه الزماني بتحولاته العديدة عبر الرحلة وأجيالها، لهذا بدت شخصية يونس المعمر الصامت، شخصية مركزية يبدأ منها الحدث، وينتهي عندها، فكانت الذات الساردة لا تغادرها إلَّا لتعود إليها.
يقودنا السرد إلى "شمس" كتجسيد للحلم الرعوي المثالي بالبراءة والجمال والقيمة، لكن شمس لا تلبث أن تتسرب من بين أصابع الراوي، فتتحول إلى طيف يهيم في المسافة بين الحلم والوهم، فتتكشف لنا "سيدة النهر" التي تنثر في طريق الذات الساردة علامات الطريق بشكل صوفي، كناسكة تبوح بالحكمة: ”كل حقيقة نكتشفها وراءها حقيقة أخرى نجهلها" ثم هي تحدثنا عن انفراط الزمن سريعًا فتقول: "لقد آن الآوان... لقد آن الآوان..."، لكن شمس تردنا إلى حيرتنا بمقولة اعتراضية: "لم يحن الآوان بعد...!".
عبر مسافات الحكي المترع بالتساؤل تمضي "خلف الحُجب" في بناء صوفي عماده حالة من الوجد "الجُبراني" والحزن الشفيف، فتتلاشى الفوارق بين خيط الحلم، وخيط الحياة الموازية للحلم، في ملكوت حالم صنعته الروائية باقتدار، وتوحد مع محكيتها، فتتماهى مع الذات الساردة في توريطنا في الحيرة؛ هل هو سؤال الموت والغياب، أم أنه التوق إلى الارتقاء، والارتواء بالحقيقة، والنوال الكامل؟. في "حلف الحجب" نحن أمام مقابلات صوفية مدهشة؛ الواقع المؤلم، الحلم بالخلاص، الحيرة والنوال العصي، ارتقاء الروح مقابل تلاشي الجسد، غياب البصر البشري، مقابل حضور البصيرة العليا بحكمتها، لنصل إلى إطلالة يونس المعمر الصوفية، بإدراكها واستبصارها حين يقول: "كل آت قد مضى، وكل ماض سيعود" ثم يستطرد يونس المعمر: "فتش عما وراء الحُجب". يحتلنا الحكي الشفيف الرائق مختزلًا علامات جلال الدين الرومي، وتهويمات جبران خليل جبران في سلسال متدفق من الأحداث، ومراوحات الحلم العصي بحثًا عن المعمر، صعودًا إلى جبل شاهق، حيث يلقي المعمر بتوجيه صارم: "فتش عما وراء الحجب" لكن الذات المعذبة بالحيرة والسؤال ترد: "كيف لهاتين العينين أن تبصرا ما وراء الحُجب؟". يتلاشى طيف المعمر، تاركًا الإجابة تشرق بالحقيقة الوحيدة:
"ما الأشياء بأشكالها زألوانها سوى حجب... فتش عما وراء الحجب..."
في ذروة انبلاج شعاع يضيء الطريق، تستعيد ذات الراوي الحائرة "شمس" من جديد، ربما تهل شمس كطيف يلامس الروح الحائرة، التائقة إلى النوال والحب، يزيدها الطيف الحائر شغفًا: "الدموع لا تفيض إلَّا حين يتعذر الكلام"
"خلف الحًجب" معراج وارتقاء دائم، وهبوط حر دائم أيضًا، هي مراوحات رائعة بين الألم والفقد من جهة، والبحث عن الحقيقة وجوهر المعنى من جهة أخرى، سفر دائم بين أهداب الحلم في عالم غرائبي يحركه يونس المعمر، وسيدة النهر الحكيمة، والحلم الأكبر متجسدًا في شمس. هي رحلة حضر فيها التجريد، مع الزفرات الصوفية، واعتصار الحكمة من رحم الوجد، والسفر وراء المعنى، في قرية بدت مسرحًا لائقًا لتحولات الشخصيات، بقيت فيه شمس هي الخيط الواصل في سماء الذات الساردة بين عالم الظلام وعالم الأحلام.