سادة القريتين.. والرباط الخفى
لم تكن قريش، حتى بعد فتح مكة، بعيدة عن معارك النبى صلى الله عليه وسلم مع ثقيف، خصوصًا من أطلق عليهم «مسلمى الفتح» أو الطلقاء الذين أسلموا والسيف فوق رقابهم، فقد ظل بعض رموز المجتمع القرشى يعمل مع سادة ثقيف ويرتب معهم بليل، وربما يكون بعضهم قد تمنى أن تحقق «ثقيف» نصرًا على محمد، صلى الله عليه وسلم، الذى بات يسيطر على مكة. وقد خرج مسلمو الفتح مع النبى فى «حنين» وقاتلوا معه، وربما يكون بعضهم قد شمت فى الهزيمة التى نالت المسلمين فى بداية الحرب، بل وقد يكون لهذا البعض دور فى تخذيل المقاتلين ودفعهم إلى الهرب، بعد الكمين الذى نصبته «هوازن» للمسلمين فى وادى حنين، حين أمطرتهم بالحجارة، ثم رمتهم بالنبل والسلاح، لكن الله أنقذ المؤمنين، وأعاد النبى وجيشه الكَرّة على ثقيف حتى هزمها.
بعد الهزيمة التى نالتها «ثقيف» فى «حنين»، تراجع الثقفيون إلى الطائف، وأغلقوا عليهم أبوابها، وأخذوا يعدون الصنائع للقتال. كان وضع الطائف غير مكة من أكثر من جهة، أولاها السور المحيط بها والأبواب التى تحصن أهلها بداخلها، وثانيتها التقدم الصناعى الذى حظيت به وما وفرته لمقاتليها من أدوات حرب. توكل النبى، صلى الله عليه وسلم، على ربه وسار مع جيشه المنتصر فى حنين نحو الطائف، وعسكر مع جنوده بالقرب من أسوارها، وما إن أبصر مقاتلو ثقيف ذلك حتى أمطروا المسلمين بالنبال، فاستشهدت منهم مجموعة، وأمرهم النبى بالتراجع بعيدًا عن السور، وعن مرمى النبال. واختلف الرواة فى تحديد الفترة التى قضاها النبى فى حصار الطائف، فقيل حاصرهم بضعًا وعشرين ليلة، وقيل حاصرهم سبع عشرة ليلة، ظل يقاتل خلالها أهل ثقيف ويقاتلونه من وراء حصنهم، دون أن يخرج له منهم أحد، وكثر الجرحى فى صفوف المسلمين، واتجه بعضهم إلى أشجار العنب التى اشتهرت بها بساتين الطائف فخربوها ليغيظوهم، فقالت لهم ثقيف: لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم. وقد ارتبطت مسألة قطع أشجار الأعناب بعدم قدرة المسلمين على اختراق أسوار الطائف، رغم اتجاههم إلى تصنيع أدوات قتالية جديدة، لم يسبق لهم استخدامها، مثل الدبابات «صناديق خشبية تسير على عجلات يتحصن بها رماة النبل» والمجانيق «قاذفات الحجارة»، ويعود الفضل فى تصنيعهما إلى سلمان الفارسى الذى أشار بالمنجنيق وعمله بيده وقيل قدم به وبدبابتين. وقد حاول عدد من الصحابة التسلل تحت دبابة واقتحام سور أهل الطائف وحرقه، فأرسلت عليهم ثقيف الحديد المحمى حتى تضطرهم إلى الخروج من تحت الدبابة، ثم أمطرتهم بالنبال، فقتلت منهم الكثيرين، وعندها أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناس فيها يقطعون.
وأمام هذا المشهد المعقد تحرك بعض وجوه مكة ممن صحبوا النبى، صلى الله عليه وسلم، فى المعركة، وتقدم كل من أبى سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة واستأذنا النبى فى الخروج إلى سور الطائف والحديث إلى ثقيف فأذن لهما النبى، فتقدما وناديا أهل ثقيف بالأمان حتى يكلماهم فأمنوهما، فدعوا نساء من قريش وبنى كنانة ليخرجن إليهما، وهما يخافان عليهن السباء إذا فتح الحصن، لكن هؤلاء النسوة رفضن الخروج، رغم أنهن قرشيات، وفى موقف حصار، ومن ينادى عليهن بالخروج قرشيان مثلهما. بعد هذا التحرك ظهر على المسرح وجه آخر من وجوه قريش وهو عيينة بن حصن، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه فى أن يأتى أهل الطائف فيدعوهم إلى الإسلام فأذن له، فجاءهم فأمرهم بالثبات فى حصنهم، وقال: لا يهولنكم قطع ما قطع من الأشجار. فلما رجع قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قلت لهم؟ قال: دعوتهم إلى الإسلام وأنذرتهم النار وذكرتهم بالجنة، فقال كذبت: بل قلت لهم كذا وكذا، فقال: صدقت يا رسول الله أتوب إلى الله وإليك من ذلك.
كأن رباطًا خفيًا كان يربط بين سادة القريتين: مكة والطائف، بعد أن تمكن النبى من فتح مكة، وكأن تحرك ثقيف وباقى قبائل هوازن ضد المسلمين- بعد الفتح- كان محل رضاء من جانب بعض سادة مكة، بل وقد أبدى بعضهم انحيازًا واضحًا لثقيف ونصحهم بالصمود- مثل عيينة بن حصن- ونقل لهم المشهد خارج أسوار الطائف، وما يعانيه المسلمون، وأنهم عما قريب سيرفعون حصارهم عن المدينة. وكان ذلك ما حدث بالفعل. فبعد ١٥ ليلة من الحصار استشار النبى فى مسألة رفع الحصار والعودة إلى المدينة فقيل له، صلى الله عليه وسلم، ثعلب فى جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك. قرر النبى العودة فقال للناس: سنعود غدًا، فاعترض البعض، فدعاهم النبى إلى القتال، فانكسروا أمام ثقيف، كرر النبى دعوته إلى العودة فاستجاب له الجميع بعد ذلك. وعند الرحيل طلب منه المسلمون الدعاء على ثقيف، فدعا النبى فقال: اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم. ومن المشاهد الملفتة فى ختام واقعة حصار الطائف ما ردده عيينة بن حصن حين سمع أمر النبى برفع الحصار والرحيل، فقد امتدح المشركين من أهل ثقيف قائلًا: «مجدة كرامًا»، فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصره؟ فقال إنى والله ما جئت لأقاتل ثقيفًا معكم، ولكنى أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أطؤها. هذا المشهد يؤكد لك ما قلناه ابتداءً من انحياز بعض وجوه مكة من مسلمى الفتح إلى ثقيف وتمنيهم أن يكسروا شوكة المسلمين الذين أخضعوا مكة، والسبب الذى حكاه «ابن كثير» ليفسر به مقالة عيينة بن حصن المبتهجة بعجز المسلمين عن فتح الطائف مجرد محاولة للتستر على واقعة خيانة واضحة كل الوضوح.