كيف يصوغ المواطن المصرى رأيه السياسى؟!
فى الأشهر والأيام الأخيرة مرت مصرُ بأحداث سياسية كبرى، وأخرى عبارة عن تفاصيل اقتصادية أو مجتمعية، وفى أى منها كان على المصريين أن يعبّروا عن رأيهم السياسى عبر وسائل التعبير المختلفة. وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكننى اختيار أحداث قطاع غزة مثالا نموذجيا على الحدث السياسى الكبير، وما أثير عن بيع محطة جبل الزيت كمثال نموذجى لخبر اقتصادى عبّر كثيرٌ من المصريين عن رأيهم فيه. وأدهشنى فى الحالتين ما قرأته من آراء سياسية مما كتبه أو تبناه أو روجه كثيرٌ من المصريين من الطبقات المتعلمة! ففيما يتعلق بموضوع غزة طغت العاطفة الدينية الشعبوية على تلك الآراء دون الالتفات إلى مفردات تاريخية قديمة أو حديثة جدا، وطغيان الانقياد خلف الشائعة وخلف صفحات مجهولة فيما يتعلق بقصة محطة جبل الزيت والإسراع بتمرير الرأى السياسى عبر صفحات التواصل من نفس الطبقة دون القيام بأبجديات التفكير العلمى من البحث المعلوماتى المسبق!
وقادتنى الدهشة إلى محاولة طرح هذا السؤال بشكل موضوعى والبحث عن إجابات موضوعية له، خاصة بعد أن أصبح لرأى المصريين السياسى الجمعى ثقله وأهميته سواء على النطاق المحلى أو الخارجى.. كيف يصوغ المواطن المصرى- وبصفة خاصة الحاصل على قدر معقول من التعلم- رأيه السياسى؟!
(1)
أثناء دراستى الجامعية- بداية التسعينيات- درست قدرا من السياسة تحت مسمى مادة "نظم سياسية"، وأذكر جيدا أول ما أخبرنا به المحاضرُ وقتها بأن الرأى السياسى لا يعنى فقط المشاركة فى الانتخابات، إنما يشمل رأى المواطن فى كل ما يحيط به فيما يخص علاقته بالدولة، بدءًا من هويتها مرورا بكل المفردات من قوانين والتزامات وخدمات، وصولا إلى المشاركة المباشرة فى فعاليات سياسية مثل الانتخابات. ثم حدثنا عن ظاهرة "العزوف السياسى" بمعنى أن يتخذ غالبية المواطنين قرارا ضمنيا جمعيا بالسلبية أو عدم بذل جهد المشاركة. وهذه الظاهرة كانت قد ضربت بالفعل غالبية المصريين فى النصف الثانى على الأقل من سنوات حكم مبارك. ندرك ذلك حين نعلم أن عدد المصوتين فى آخر انتخابات فى عهده عام 2010م لم يتخط ستة ملايين ونصف المليون، معظمهم من موظفى الدولة الذين تم نقلهم إلى مقار اللجان الانتخابية بحافلات حكومية!
كان هناك ما يشبه اتفاقًا أو تواطؤًا ضمنيًا بين الإدارة السياسية الحاكمة وبين الشعب، مضمونه عزوف سياسى شعبى مرحب به حكوميا مقابل رشاوى فى صورة دعم مالى غير محدود استنزف مقدرات الدولة وأدخل المصريين فيما يشبه غيبوبة حضارية وانفصالًا عن العالم. رضى الحكام ورحبوا بالعزوف السياسى ورضى الشعب ورحب به ومارسه مقابل "الميغة" أو الرشوة حتى نفدت موارد الدولة فحدث الصدام الحتمى!
كان هناك عامل مهم ساهم فى تفعيل ذلك التفاهم المشين وغير الوطنى وغير المسئول كما ساهم فى بقائه على قيد الحياة سنوات طويلة، هذا العامل هو عدم وجود وسائل إعلامية شعبية مستقلة قوية. فلم يكن لغالبية المصريين صفحات شخصية على وسائل التواصل مع حداثة معرفتها بين المصريين آنذاك. كانت صفحات شخصية لم يعرها غالبية المصريين أى اهتمام، لذلك لم تكن هناك قنوات يشعر من خلالها المصريون بأهمية أن يكون لديهم "رأى سياسى" حيث إنهم كانوا قد قاطعوا بالفعل الأحزاب إلا الحزب الوطنى وفقط من أجل الحصول على مكاسب شخصية وليس من أجل ممارسة السياسة.
هذا المشهد بتلك المفردات لم يغرِ أحدا بطرح هذا السؤال "كيف يصوغ المصرى رأيه السياسى؟!"، كما لم يعنِ أحدا إدراكُ أهمية وجود إجابة وأهمية تقديمها للمصريين. فكيف نسأل عما لا وجود له؟! حيث كان المصريون لديهم رأى بسيط موحد هو العزوف السياسى وهو تواطؤ أكثر منه رأى!
(2)
حتى كانت مشاهد 25 يناير الأولى حين وجد المصريون أنفسهم أمام أبطال جدد صنعتهم صفحات السوشيال ميديا استطاعوا من خلالها- كما اعتقد غالبية المصريين وقتها- تغيير نظام الحكم! كان الحدث جللا والهزة كبرى فى عقول المصريين. وجدوا أنفسهم فجأة أصحاب قرار ومطالبين بأن يكون لهم رأى سياسى، وهذا الرأى سوف يكون فاعلا فى مشاهد اللحظة وفى مستقبل مصر! أصبحوا مطالبين فى كل ساعة بإبداء رأيهم السياسى، ليس فقط فى مشاهد الانتخابات بل فى تأييد هذا أو سحب البساط من ذاك! بأن يقولوا رأيهم فى أحداث سياسية يومية ملتهبة ودماء تُسفك كل يوم. لقد صاغ المصريون رأيهم السياسى المجرد فى الأحداث الكبرى التى مرت بها مصر منذ تنحى مبارك وحتى اليوم! قاموا بذلك بالفعل السياسى التقليدى المباشر عبر صناديق الانتخابات عدة مرات فى عقد من الزمان هو الأخطر فى تاريخ مصر المعاصر. كما قاموا- ولا يزالون يقومون به- بتمريره بوسائل مختلفة غلب عليها صفحات السوشيال ميديا. قاموا بذلك ولا يزالون فى كل حدث كبير تواجهه مصر وكل طريق اقتصادى تسلكه. لذلك ومنذ ذلك التاريخ- تنحى مبارك عن الحكم- أصبح هذا السؤال ليس فقط مشروعا، بل تجب دراسته بشكل بحثى موضوعى.
ويمكننى تقسيم إجابة هذا السؤال إلى أربعة مراحل زمنية، لكل مرحلة منها مفرداتها الخاصة وعوامل التأثير التى كان لها نصيب الأسد فى صياغة المصريين قراراتهم السياسية الفاعلة!
تمتد المرحلة الأولى من 25 يناير 2011م وحتى 22 نوفمبر 2012م مع إصدار جماعة الإخوان إعلانها الدستورى! بينما تمتد المرحلة الثانية منذ ذلك التاريخ وحتى انتخاب الرئيس السيسى عام 2014م. أما المرحلة الثالثة فهى التى تشمل السنوات الأولى من حكم السيسى وحتى إعلان انتصار الدولة المصرية رسميا على ميليشيات الإرهاب بسيناء وسقوط جبل الحلال وتفقد الرئيس له فبراير 2017م، ثم المرحلة الرابعة والأخيرة الممتدة منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم!
(3)
فى المرحلة الأولى- من 25 يناير 2011م وحتى نوفمبر 2012م- لعبت ثلاثة عوامل دور البطولة فى صياغة غالبية المصريين آراءهم وقراراتهم السياسية، وهى المساجد والسوشيال ميديا وبعض القنوات التليفزيونية مثل تلك القناة الإخبارية التابعة للدويلة الخليجية! اتفقت هذه العوامل فى توجهها برفع حالة الغضب عند المصريين إلى حدودها القصوى ونجحت فى تحويل بوصلة هذا الغضب من رجال مبارك وطرق إدارتهم للبلاد إلى أن يصبح غضبا موجها ضد الدولة المصرية ذاتها! وقع المصريون فى هذه الفترة فريسة لضغوط موجهة كبرى من هذه الجهات الثلاث لم تدع لهم- أى للمصريين- فرصة لإخضاع هذا السيل المتدفق الموجه إليهم من أخبار وروايات تاريخية دينية للعقل أو البحث المعلوماتى! غرق المصريون حتى أذقانهم فى خلط السياسة بالدين وممارسة السياسة على بناء على توجيه دينى عن طريق منابر المساجد فى خطب الجمعة تحديدا (قمتُ بنشر مقال مستقل عن هذا الدور بجريدة الدستور بعنوان خُطب الإثم والبراءة! 20 يونيو 2023م). ثم صبت بعض القنوات التليفزيونية سيلا من المعلومات التى اتضح بعد ذلك بسنوات كذب كثيرٍ منها وأنها كانت موجهة مثل خبر ثروة مبارك بالخارج! كما كانت هذه الفترة هى العصر الذهبى والأقوى لصفحات السوشيال ميديا فى القيام بتمرير ما تريده بعض الجهات المحترفة القائمة عليها. أى أن ما حدث كان الآتى.. استغل رجال الدين المساجد بلا ضوابط فمارسوا السياسة فوق المنابر بتوجيه المصريين سياسيا توجيها دينيا، وساندتهم بعض القنوات التليفزيونية الموجهة وكتائب صفحات التواصل الاجتماعى بالضغط العصبى المكثف على مشاعر الغضب المصرية وتوجيهها عمدا ضد الدولة المصرية.. فكانت نتيجة هذا الامتزاج بين هذه العوامل الثلاثة- المساجد وبعض القنوات والسوشيال ميديا- منطقية جدا! حيث كان قرار المصريين بصياغة رأيهم السياسى الجمعى على أساس دينى بانتخاب الجماعة الإرهابية الأم لحكم مصر!
(4)
هدأ المصريون قليلا بعد انتخاب الجماعة وانتظروا منها أن تحقق لهم على الأرض ما سمعوه على المنابر.. كان لسان حالهم يقول إننا سمعنا وقمنا بدورنا وغيرنا شكل الدولة بأصواتنا الانتخابية فأين ما وعدتمونا به؟! انتظروا دولة العدل المطلق! انتظروا أن يروا عبقرية علماء الجماعة الذين كانت تتحدث عنهم طوال عقود، وأن المصريين كانوا محرومين من الاستفادة بهؤلاء العباقرة! انتظر المصريون أن تنفذ الجماعة تحقيق شعار الإسلام هو الحل بمفهوم الجماعة! لكن ما رآه المصريون على الأرض أصاب كثيرا منهم بالصدمة! كانت هذه الصدمة هى السر الذى دفع هؤلاء لتغيير طريقة صياغتهم لرأيهم السياسى، وهذا يقودنا إلى المرحلة الثانية التى بدأت إرهاصاتها فى التبلور بعد أسابيع قليلة من انتخاب الجماعة مع مشاعر ومشاهد الصدمة التى اجتاحت المصريين حين رأوا أن الجماعة ليست إلا جماعة إرهابية تقليدية تختلف تماما عن الشخصية المصرية، وأن تلك الجماعة لا هم لها سوى شره السيطرة والحكم الشمولى، وأن كل ما كان إعلام الجماعة يتحدث عنه فى عقود من علماء وكوادر وأبحاث ليس إلا وهما وكذبا ودجلا! اكتشف المصريون الخديعة فبدأوا بالتمرد على العوامل الثلاثة التى قادتهم فى المرحلة السابقة إلى هذه الخديعة! بدأنا نرى مشاهد جديدة تجسد هذا التمرد، مثل الصدام بين مواطنين مصريين وبين رجال دين فى المساجد وبعض المحافل العامة. بعض قنوات التليفزيون المصرية الخاصة التقطت هذا التمرد وحاولت اللحاق بركب المصريين فبدأت فى إعادة صياغة خطابها الإعلامى، وتحول بعضها إلى منصات يلتف حولها المصريون. وهنا يجب أن أوضح حقيقة مهمة تابعتُها آنذاك، أن المصريين هم من بدأوا هذا التمرد على الإخوان بشكل شعبى ثم حاولت بعض القنوات مواكبة ذلك وليس العكس!
كان إعلان مرسى نوفمبر 2012م هو ذروة هذا التمرد وبداية المرحلة الثانية التى تمتد حتى انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهو الذى عرفه المصريون لأول مرة كقائد للقوات المسلحة.. المؤسسة الوطنية الأسمى فى مصر! فى هذه المرحلة أعلنت عوامل أخرى عن نفسها فى صياغة المصريين رأيهم السياسى. أزاحت هذه العوامل الجديدة سابقاتها جانبا وكان لها نصيب البطولة المطلقة فى القيام بهذا الدور.. أتى على رأس تلك العوامل، وكان بحق هو السر الذى لم يدركه كثيرون، استنفار الجينات المصرية التاريخية التى تمثل العصب الأساسى فى مكونات الشخصية المصرية من كمونها. فحين صُدم المصريون بمشاهد صدام الجماعة وعدائها وتطاولها- بعد وصولها للحكم- على المؤسسات الوطنية الرفيعة مثل القوات المسلحة ومؤسسات القضاء انتفض المصريون وأدركوا أنهم قد ارتكبوا خطيئة تاريخية كبرى فقرروا التطهر منها فورا باتخاذ قرار سياسى جمعى بطرد الجماعة غير الوطنية من حكم مصر! صاغ المصريون قرارهم السياسى الأهم بناءً على هذا العامل تحديدا، بينما توارى وتقلص دور العوامل الأخرى من سوشيال ميديا وإعلام مرئى. مارس المصريون فى هذه المرحلة عملية فرز لتلك العوامل لانتقاء ما يوافق رأيهم السياسى بينما تحفزوا ضد ما كان يسير عكس هذا الرأى. استمرت حالة استنفار هذه الجينات فى قيامها بهذا الدور بعد طرد الجماعة لتشمل مساندة الدولة فى قراراتها بفض الاعتصامات الإرهابية وإصرارهم على انتخاب رمز الدولة الوطنية وهو رأس المؤسسة الوطنية الأسمى رئيسا للدولة!
إذن كان لمكونات الشخصية المصرية الأصيلة والأصلية دور البطولة المطلق فى صياغة المصريين رأيهم السياسى، ثم تحويله لقرارات سياسية حاسمة فى المرحلة الثانية منذ إعلان مرسى وحتى انتخاب قائد القوات المسلحة رئيسا للدولة!
(5)
تبدأ المرحلة الثالثة بانتخاب السيسى رئيسا لمصر يونيو 2014م وتمتد حتى إعلان الانتصار المصرى على الإرهاب وسقوط جبل الحلال فبراير 2017م. فى هذه المرحلة برز عاملٌ جديد كان هو القوة الأكثر فاعلية فى صياغة المصريين رأيهم السياسى، وهو تلك العلاقة الفريدة بين شخص الرئيس وجموع المصريين، وهذه الثقة الكبرى فى شخص الرئيس، والتى ولدت فى ذروة محنة المصريين. ثقة المصريين هذه هى التى دفعتهم لاتخاذ قراراتهم السياسية بتأييد الدولة المصرية فى سلسلة قراراتها، خاصة فى مجالات الاقتصاد والتنمية والمشروعات الكبرى. وكانت ذروة بروز هذا العامل هى سرعة استجابة المصريين لدعوة الرئيس للمساهمة فى مشروع قناة السويس. ولا يمكن إنكار وجود عامل آخر نفسى ساعد المصريين فى صياغة مواقفهم السياسية، وهو قرب المدى الزمنى بينهم وبين مشاهد الفوضى والخراب والدمار وسفك الدماء التى كانت الجماعة الإرهابية بطلها الأوحد. استمدت مؤسسات إعلامية مصرية من ثقة المصريين فى الرئيس رؤيتها وصاغت مواقفها بوضوح فى الوقوف فى صف الدولة. ساهمت بعض القيادات الدينية الرسمية الفاعلة، مثل قيادات وزارة الأوقاف، المصريين على التحرر من التشوش الذى دأب وعاظ المساجد سابقا على الضغط به على المصريين فى كل موقف طُلب منهم إبداء رأي سياسى. فكانت سيطرة وزارة الأوقاف على منابر المساجد سببا رئيسا فى العودة بها إلى ممارسة دورها الطبيعى كدور عبادة لممارسة الطقوس الدينية والنأى بها عن ممارسات سياسية غير مشروعة!
ساهم كل ذلك فى منح القيادة المصرية فرصة اتخاذ قرارات اقتصادية كبرى، مثل قرارات الإصلاح الاقتصادى التى كانت هى طوق النجاة الأوحد لمصر للخروج من النفق المظلم. فعّل الرئيس هذا العامل- ثقة المصريين به- فى صالح الاقتصاد المصرى باتخاذ قرارات جريئة، ولم يستغلها بشكل سلطوى أو حاول مثلا "تنييم" المصريين وتخديرهم ومحاولة العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل يناير 2011م، لكنه قرر بشكل حقيقى العمل على بناء دولة وتوفير فرص عمل لأجيالٍ قادمة واقتحام ملفات كانت قد توارت تحت ثرى الإهمال والتواطؤ، مثل ملف جودة التعليم وغزو الصحراء والتأمين الصحى والخطاب الدينى المشوه وملف الانفجار السكانى!
(6)
تبدأ المرحلة الرابعة- الممتدة حتى الآن- بعد اطمئنان المصريين على دولتهم وعودتهم تدريجيا لممارسة روتين حياتهم اليومية بمتغيراتها الاقتصادية والمجتمعية الجديدة. استرخت مشاعر الخوف والتوتر الجمعى وبدأت تفاصيل الحياة اليومية. كان من المفترض أن يستفيد غالبية المصريين من خبراتهم التى تراكمت عبر المراحل الثلاث السابقة للوصول إلى طرق أكثر نضجا وموضوعية لصياغة آرائهم أو قرارتهم السياسية. تلك القرارات التى أصبحت غير فردية وتؤثر فى الآخرين لبثها على صفحات التواصل الاجتماعى بسهولة وسرعة. قطعا هناك من فعل ذلك بالفعل وكان بمثابة رمانة الميزان فى المواقف الصعبة التى واجهتها مصر منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. هؤلاء هم من بدأوا يصوغون آراءهم السياسية بعد تأنٍ وعقلانية ومراجعة معلوماتية مع الاحتفاظ فى العقل بأساس راسخ يتمثل فى أن الحفاظ على الدولة المصرية الوطنية هو اختيار حتمى وجودى ولا مجال للارتداد عنه مثلما حدث فى 2012م. لكن هناك كتلًا أخرى بدت وكأنها لم تمر بما مرت به مصر، وبدأت تسقط فى نفس الفخاخ السابقة بسهولة غريبة!
فمع تعرض مصر لتحديات اقتصادية وسياسية ومنحنيات خطرة مثل أزمة كوفيد وتأثر خطوات الإصلاح الاقتصادى بها، ومثل آخر التحديات السياسية الخطرة المهددة لحدود مصر الشرقية، مع هذه المواقف ومع ما نقرأه مما يبثه المصريون من آراء سياسية عاد السؤال مجددا وبقوة: كيف يصوغ المصريون الآن آراءهم السياسية الشعبية؟ والتى لم تعد فقط ذات أهمية محلية داخلية، لكنها أصبحت محط أنظار قوى دولية منغمسة ومتورطة فى الأحداث السياسية الملتهبة على حدود مصر الشرقية!
للأسف عاد وبقوة العامل الدينى المغلوط- أو خلط ما يعتقده كثيرٌ من المصريين أنه الدين- بالموقف السياسى! عاد هذا العامل للعب دورٍ متزايد الخطورة فيما تتعرض له مصر. فقطاعات كبرى من المصريين تناست تماما أنها قد سقطت فى نفس الخديعة منذ سنوات قليلة فقط، وبدأت هذه القطاعات فى الضغط العاطفى المتشح بالدين على الدولة المصرية لدفعها لاتخاذ قرارات تهدد أمنها القومى. بالتزامن مع ذلك بدأت صفحات موجهة تتحفز لممارسة نفس الدور الممنهج لتوجيه الرأى السياسى الشعبى المصرى توجيها معينا مهددا لكيان الدولة عبر اللعب على المشاعر الدينية الغوغائية، وعبر بث سيلٍ جديد من المعلومات التى لا يتبين مدى صوابها إلا بعد أن تكون قد قامت بدورها المرسوم!
الملاحظ أن كثيرا من المصريين من الطبقات المتعلمة- وبعضهم أصبح محركا لأعداد ليست بالقليلة- لا يصوغون آراءهم وقراراتهم السياسية على أسس موضوعية ويقومون بتمرير معلومات كثيرة يثبت فيما بعد تمام كذبها! وسأعرض لبعض الأمثلة الصارخة والأكثر فظاظة!
(7)
بعد طرد الجماعة الإرهابية من الحكم فوجئنا فى مجال الإرشاد السياحى مثلا بمرشدين يصعدون على منصات الاعتصامات الإرهابية يؤيدون الإرهاب بشكل صريح ومعلن. ثم بعد فض تلك الاعتصامات شارك بعضهم فى مسيرات تواجه مؤسسات الدولة الوطنية، وقامت صفحات بعضهم كمنصات إرهاب صريحة.. توقفت كثيرا أمام هذا المشهد.. لأن هؤلاء تحديدا من المفترض أن لديهم مناعة خاصة ضد هذا السقوط لأنهم دارسون لتاريخ مصر ويقومون بنقل هذا التاريخ وهذه الحضارة إلى آخرين.. توقفت أمام السؤال.. كيف صاغ هؤلاء مواقفهم السياسية؟!
إننى أعتقد أن من حصل على شهادة أكاديمية بأنه قد درس تاريخ مصر ثم حصل بشكل قانونى على إجازة ممارسة مهنة سامية مثل الإرشاد السياحى ثم سقط هذا السقوط، إننى أعتقد أنه مجرد لص متسلل سرق مكانا ليس مكانه ولا يختلف كثيرا عمن يحصل على منصبٍ لا يستحقه.. فمن تمام الاستحقاق أن يكون شاغل المنصب مؤهلا لشغله بشكل واقعى لا شكلى أكاديمى.. هؤلاء كانوا كالمنافقين تماما يبدون عكس ما يبطنون وكانوا على وشك لعب دور حصان طروادة لو تم لهم ما توهموه وعادت الجماعة الإرهابية للحكم! لم يؤمنوا فى الأصل بما حصلوا على شهادات أكاديمية وقانونية بالإيمان به! كانوا يكتمون كفرهم به ثم لما واتتهم الفرصة باحوا بكفرهم بمصر وشخصيتها وتاريخها! هؤلاء لم يُخدعوا! لأنهم إن خُدعوا فقدوا شرعية تأهلهم لما يمارسونه!
(8)
أطباء ومهندسون من تخصصات علمية رفيعة ومثقفون من المفترض أنهم قاطرة الشعب فكريا، كانوا مجرد أرقام وأفراد يسمعون ويطيعون لآخرين ربما لم يقرأوا كتابا واحدا فى حياتهم! يتم تلقينهم أو توجيههم ثم يبدأون فى بث ما يتم تلقينهم به من أكاذيب موجهة بين المحيطين بهم من باقى المصريين مما أثر بالفعل فى صياغة البعض رأيه السياسى.. كيف يحدث هذا فى الأصل؟!
إننى أعتقد أن الطبيب أو المهندس أو المعلم أو غيرهم من المثقفين ممن تخلوا عن تطبيق الطرق البحثية الموضوعية فى صياغة آرائهم السياسية ينطبق عليهم معنى الآية الكريمة كحمارٍ يحمل أسفارا! يحمل فى عقله كل نظريات التفكير العلمى الموضوعى لكنه لا يستعملها إلا للكسب المادى حين يمارس مهنته- فى حال إن كان ناجحا مهنيا- لكنه ينحيها جانبا فى كل تفاصيل حياته وقراراته الأخرى! وانسياق بعض الآخرين خلف أحدهم فى الموقف السياسى إنما ينبع من خطأ آخر يمارسه المنساقون.. وهو اعتقادهم بأن خلفيته المهنية العلمية الرفيعة لا بد وأن تكون منهجه الموضوعى الدائم فى التفكير وصياغة الرأى!
(9)
وأعود لما بدأت به مقالى.. لدينا مثالان نموذجيان.. الأول هو كل ما نقرأه بخصوص مأساة قطاع غزة مما يكتبه المتعلمون المصريون.. بعضهم نحى جانبا كل الحقائق التاريخية عما تعرضت له مصر من هذه الحدود تحديدا أو ما تعرضت له من وقائع قريبة المدى الزمنى.. لا يكترثون لحقيقة أن لكل دولة كيانها ومصيرها وما يتهددها وما على شعبها فعله للحفاظ عليها.. يلغون تاريخ مصر كله ويقفون عند خطبة حماسية عصماء عن أوهام وأساطير دينية.. تُحركهم كلمات رجل دين ربما لا يعرف حدود مصر جغرافيا.. ويتناسون حربا خاضتها مصر منذ سنوات قليلة فقط فقدت خلالها آلافًا من أبنائها بين شهيد ومصاب.. ينسون أن كل حديثٍ عن دولة خلافة إسلامية الآن هو دجل ليس إلا.. ينسون أن الدولة التى تقبل التفريط فى أرضها هى دولة بلا شرف.. وأن كل الشعوب التى فرطت فى حقائق العصر ومفرداته وفرطت فى أرضها ودولها الوطنية هى شعوبٌ لا تستحق أوطانها وقد تحولت بالفعل بعد التفريط إلى شعوب شتات!
المثال الآخر هذا الكم مما قرأناه عن بيع محطة جبل الزيت.. وهو صورة كربونية مما حدث عشرات المرات فى السنوات القليلة الماضية مع كل خبر اقتصادى وكل صفقة استثمارية.. خبر عابر بثته إحدى الصفحات المجهولة.. فى سويعات قليلة قرأت نفس الخبر بنفس الصيغة على عشرات الصفحات التى كان كل أصحابها متعلمين! لم يكلف معظمهم نفسه ببحث لا يستمر أكثر من دقائق.. ربما كانت كافية تماما لأن تتوقف الكذبة عندهم، بل جعل من نفسه دون قصدٍ مجرد فردٍ فى كتيبة إلكترونية موجهة!
مثال ثالث وأخير.. أن يقوم مصرى متعلم مثقف بصياغة رأي سياسى ثم يقوم بترويجه عن حقبة زمنية معينة عن طريق بضع صور فوتوغرافية دون أن يبذل أى جهدٍ معلوماتى بحثى.. فمثلا مصر قبل 1952م كانت جنة الله على الأرض.. لمجرد أن أحدهم وجد بضع صور فوتوغرافية لشارع من شوارع القاهرة.. لكنه لو قرأ لعلم الحقائق كاملة. لو علم مثلا أن القاهرة وحدها آنذاك كان بها أكثر من ستين ألفا من أطفال الشوارع- بما يوازى الآن أربعمائة ألف حسب نسبة العدد إلى إجمالى السكان- لأدرك أن ما نشره لم يكن سوى عبث كامل!.. سذاجة متناهية فى صياغة آراءٍ سياسية أصبحت ذات قيمة ليس لقيمتها ذاتها، وإنما لتوفر وسائل نشرها بسرعة فائقة!