عشنا هذا من قبل
خلال العام الأخير، قالوا وكتبوا وكتبت عن التطبيع المرتقب بين إسرائيل والسعودية، كنت متحمسة، وكانوا متحمسين، لأكثر من مرة وصلنا إلى قمة الحماسة والترقب. والحديث دومًا كالتالى: بلينكن يزور المنطقة، ويصرح بأن الاتفاق قريب، وفى واشنطن متفائلون، وفى إسرائيل يرددون أن الصفقة على الأبواب، والسعودية تطلق تصريحات مطاطة بأن السلام مرهون بإقامة دولة فلسطينية.
فى كل مرة نتأهب ونربط أحزمة المقاعد ونستعد للعرض الحى، الذى سيوقع فيه نتنياهو ومحمد بن سلمان الاتفاق، وفى النهاية يحدث شىء أو لا يحدث شىء، بسبب أو دون سبب، يتم إيقاف العرض المثير.
هذه المرة قررت التعلم، لن أندهش، ولن أتحمس، ولن أنفعل، ولن أكتب عن التطبيع الذى سيغير أشياء كثيرة، سأنتظر حتى ربما لحظة الاتفاق، حتى لحظة التأكد، فكلنا عشنا هذا من قبل.
بعيدًا عن التصريحات الحماسية، الواقع مختلف، إسرائيل تهدد باجتياح رفح، وحتى لو تم وقف العملية وإتمام صفقة وقف إطلاق النار مقابل تحرير الرهائن، هذا لا يعنى أن الحرب انتهت، وإذا عمليًا الحرب انتهت، فهذا لا يعنى أن الدمار انتهى، وحتى لو بدأنا إعمار غزة، هذا لا يعنى أن الجرح تم إغلاقه.
حتى لو كنا متحمسين، الحماسة وحدها لا تكفى، حتى لو كانت إدارة بايدن وضعت الأمر على أجندتها لاعتبارات داخلية تمهيدًا للانتخابات الرئاسية، فإن هذا أيضًا لا يكفى.
صحيح أن المشاورات حول التطبيع لم تتوقف، حتى بعد الحرب فى غزة، فواشنطن لم تغلق الملف أو تؤجله، بل أرادت أن يكون وقف الحرب فى غزة هو جزء من صفقة التطبيع. ولا يمكننا إنكار أن حماس ومن خلفها إيران أرادتا تعطيل التطبيع من خلال تلك الحرب.
فيما حاولت واشنطن أن تقلب الطاولة، وأن تجعل الحرب التى عطلت التطبيع هى الحرب التى ستحقق الصفقة التى ستقلب الموازين فى الشرق الأوسط.. نعم.. لكن من قادر على دفع ثمنه؟
فى إسرائيل يقدرون أهمية التطبيع، لكن هل ستدفع الثمن؟، تتنازل عن عملية رفح وغزة وتتعهد بإقامة دولة فلسطينية، وأن تكون السلطة الفلسطينية شريكة فى الحل فى غزة فى اليوم التالى للحرب؟، وهل تتنازل واشنطن وتمنح السعودية ما تريده من طائرات F 35، وتسمح ببدء برنامجها النووى وتسمح ببدء سباق نووى فى المنطقة المضطربة أصلًا، فى مقابل أن تتدخل السعودية فى إعمار القطاع؟
مقابل الأثمان السابقة، فإن الجميع أيضًا يريد كسب شىء ما، فالولايات المتحدة تريد تأسيس نظام إقليمى جديد بقيادتها فى الشرق الأوسط يعطى انطباعًا لحلفائها أنها لم تترك المنطقة، كما تسعى للربط بين التطبيع الإسرائيلى- السعودى وبين الترتيبات الإقليمية الشاملة التى توجد فى مركزها الشراكة مع دول الخليج، وإنشاء معسكر إقليمى فى مقابل إيران.
والسعودية من جانبها، تسعى لتحسين وضعها الإقليمى، وبصورة خاصة فى الخليج العربى والبحر الأحمر، وتحصين مكانتها وأمنها، وفى الأساس حيال إيران، عبر تقوية العلاقات مع واشنطن.
وإسرائيل تريد التطبيع مع الدولة العربية الإسلامية الكبرى فى المنطقة، وهو ما سيفتح لها باب التطبيع على مصراعيه، إذ من المتوقع أن يتبع السعودية العديد من الدول الآسيوية والإفريقية.
الحماسة كبيرة، لكن الأثمان مرتفعة، والأهم أننا عشنا هذا من قبل!