وجع الفراشات.. ثقافة البعيد عن العين
منذ زمن بعيد وثقافة «البعيد عن العاصمة بعيد عن العين والقلب» تطارد مبدعينا الكبار الذين يعيشون فى بحرى والصعيد، وعلى هامش المدينة أيضًا.. يصرحون بذلك فى جلسات الفضفضة.. وفى أوراقهم الخاصة.. فى أحيان كثيرة.. ويكتمونه فى غالب الأحيان حتى يحل فرح ما أو حزن ما لفوز أحدهم بجائزة أو تكريم هو مستحق فى الغالب أو حرمان أحدهم من فوز منتظر.. أو كلما تيسرت مساحة للبوح.. ظل أمر الجغرافيا وهيمنة العاصمة على الضوء أمرًا مرعبًا وضاغطًا على أعصاب وأرواح وإبداعات الكثيرين.. وقليلون أولئك الذين نجوا من أوجاع هذه الظاهرة الخانقة.
أعرف ذلك من حكايات الأحبة وترحالى بين المحافظات ومسامرات الأصدقاء وتعليقاتهم الفاضحة والخجولة فى مواقف شتى.. صارت صفحاتنا الشخصية على مواقع التواصل سجلًا لمن يريد أن يرصد أو يحلل.
ورغم قناعتى الشخصية بأن العاصمة أخذت من أرواح ساكنيها وأجسادهم أكثر بأضعاف ما منحت.. فإننى لا أنكر أنها مدينة ظالمة ومتجبرة ومتعالية وكذوب، وغير منصفة على الإطلاق لمن يعيشونها أو لمن يعتقدون أنهم حرموا من جنتها.. ورغم أن من يعيشونها أغلبهم قادمون من ذلك البعيد.. إلا أنهم يكتسبون نفس صفات سكانها الأصليين منذ لحظة خلعهم أحذيتهم وأرواحهم ونقاءهم على أعتابها.
وعندما حاولت العاصمة أن تتبرأ من تهمة انحيازها، وخصصت بعض البرامج والسلاسل الخاصة، وربما بعض المنح لمن يعيشون فى ذلك البعيد، اعتبر هؤلاء البعيدون ذلك التمييز إهانة إضافية لذواتهم.. ونظروا إلى تلك البرامج والسلاسل باعتبارها تهميشًا.. وتحجيمًا فى ركن ضيق من قبل حسنة صغيرة يلقيها أسياد العاصمة لعبيد المراكز والكفور.. ربما لا يكون ذلك صحيحًا على الإطلاق لكنه موجود وساكن تحت رماد الوجع ومكتوم إلى حين.
البعيدون.. يتمنون احتراق فراشاتهم بالقرب من ضوء العاصمة على نعيم التجاهل الذى يشعرونه ويمتعضون منه.. وتسهم سياسات الموظفين فى قطاعات مختلفة فى زيادة تلك النظرة وتكريسها حتى صارت قانونًا تعايشنا على تصديقه، حتى وإن أنكرنا وحلفنا بأغلظ الأيمان.
الأسبوع الماضى كتب الشاعر المسرحى الصديق «طارق على» يحكى عن تجربته التى فرح بها على مدار شهور.. حيث إنه من أبناء بورسعيد، وقد استطاع خلال سنوات أن يحجز لنفسه واسمه مساحة ضوء طيبة.. قدم عددًا كبيرًا من الأغنيات الناجحة والمسرحيات مع عدد كبير من النجوم.. وجاءته دعوة ليخوض تجربة مع أبناء مدينته التى يعشقها، فذهب إلى هناك فرحًا بأنه يتعاون مع جيل جديد من مبدعى المدينة التى تعيش على ضفة القنال.. يحلمون بفرصة أن يعبروا عن أنفسهم.. وبعد شهور من الحلم والتعب وقبل أيام قليلة من ليلة الافتتاح ضاع كل شىء بسبب شوية فكة، وتعنت موظف قابع خلف نظارته فى المبنى العتيق بشارع قصر العينى.
قصة طارق الموجعة ليست الأنموذج لما يحدث فى خرابة قصور الثقافة التى كان اسمها فى يوم ما الثقافة الجماهيرية، ولا أعرف من العبقرى الذى غيّر الاسم فى لحظة قررت العاصمة تهميش الجماهير وتغييبهم ونفيهم من ذاكرة الوطن.
أحكى لكم حكاية قصيرة.. لقد تعلمت فنون الموسيقى وتفاصيلها وخطوطها العامة وأنا طالب ثانوى يدرس فى مدينة سوهاج من عازف كلارينت بقصر ثقافة سوهاج فى ثمانينيات القرن الماضى.. وعرفت «جاك بريفير وميلتون واليوت والماغوط ونجيب سرور» وأسرار لعبة التحطيب من خشبة مسرح نفس القصر.. قرأت درويش وأدونيس وصلاح جاهين من مكتبة نفس القصر.. حضرت عشرات الأفلام فى سينما نفس القصر.. القصر ذاته تم إهماله سنوات حتى صار خرابة حرفيًا.. وانتبهت الدولة للأمر فى وقت حربها مع طيور الظلام، وخصصت ملايين الجنيهات لإعادة تجديد مبانى القصر وقد حدث.. وماذا بعد؟.. ظل المبنى، الذى صار جديدًا وفخمًا، ميتًا بلا روح أو عمل.. لماذا؟.. لأن السيد الموظف القابع خلف نظارته فى شارع قصر العينى لم يفهم أن الدولة التى ذهبت إلى هناك بعد سنوات طويلة من الإهمال لتبنى المدارس والمستشفيات والجامعات وتشق الترع وترصف الشوارع.. وتمد خطوط الغاز والكهرباء.. فى مبادرة حياة كريمة الملهمة- ذهبت لتعيد بناء الإنسان أولًا.. عقل وزارة الثقافة لم يفهم أن الملايين التى صرفت لم تكن لتنمية الأحجار.. باختصار.. عقل وزارة الثقافة فى حاجة عاجلة لإعادة الفك والتركيب قبل أن تحترق فراشات الجميع فى ذلك الوطن الذى لم يكن بعيدًا أبدًا.