الشاعر خالد منتصر.. ومُتعة القفز خلف خطوط الذاكرة
نحن لسنا بصدد "تحليل" كتاب فني؛ ولكننا في رحلة رصد صادقة لإيقاع "السياسة" بعينها؛ وتفاعلها المؤثر في أرضية المجتمع؛ ولكننا بصدد "تصوير" حزين للحظات بداية النضوج والتفتح في عقلية "الصبي" والذي تتفتَّح عيونه على الأوضاع الحياتية المُرهقة وتجواله بين "رائحة الخشب "؛ و"رائحة الجومالكا" في ورش تصنيع الأخشاب في قريته التابعة لمدينة "دمياط"؛ وليلتقط "الصبي الغض" بكاميرته الروحية أحوال "صناع الأثاث" و"صيادي البحر" الهادر الذي لايرحم؛ ويشاهد بعينيه ـ على حد وصفه ــ كيف تلتهم".. البلهارسيا" أكباد نصف سكان القرية؛ وجعلت مشهد الدم في بول الفلاحين مشهدًا مألوفًا وكأنه حيض الذكور" ويالها من صورة شعرية تبعث على الحزن والقلق على مصائر البشر على ضفاف النيل الذي يجري تحت أقدامهم؛ وفي الوقت نفسه يعطيهم الخير والرزق الحلال.
وبين هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء؛ كان "الصبي" يصبو إلى الحرية الشخصية؛ وانتصارًا لمزاجه الذي تغلُب عليه روح التمرد؛ للخروج من سطوة دائرة السلطة الأبوية"؛ لتمنحه الظروف تلك الحرية المنشودة " على طبق من ذهب "!؛ وبرغم فشله في تعلم السباحة لحادثة فقد الأخت الصغيرة ( نادية ) في مياه الترعة ــ فقد جعلنا نقفز معه بكل الرشاقة واللهفة للسباحة في بحاره العميقة والحزينة ــ وسطوره الفارقة “خلف خطوط الذاكرة”.
ولا أقول إن الكاتب قد امتطى صهوة جواد "الخليل بن أحمد الفراهيدي"؛ وتفعيلاته التي اكتشفها في بحوره الشعرية؛ ولكنه امتطى صهوة" المقامات الموسيقية"؛ ليغمس "القلم الرصاص" في مقام "الصَّبا" الحزين؛ ليؤرخ لحقبة فاصلة في مسيرة الحياة بمصرنا المحروسة؛ المسيرة التي خضَّبت ـ بالدم ـ جدران القلب والروح.. والجسد ! وجازاه الله.. فلقد ضحكنا معه ــ وشر البليَّة مايُضحك ــ على الحال والأحوال؛ وبكينا بالدموع والدم من خلف شاشات عيوننا؛ التي ظلت تلاحق السطور حتى آخر كلمة في الصفحة الأخيرة؛ لنحاول شرب منقوع هذا "اللحن الحزين" وهذا المنتوج الروحي للكاتب الشاعر الساحر؛ فقد نجح في أن "يجرجرنا" معه إلى ورش دمياط ومدرجات الجامعة وشوارع وحواري وأزقة ومقاهي مصرنا الباكية في أحضان التاريخ؛ لنبكي معه على أرواح شهداء التنوير؛ هؤلاء الذين أرادوا أن يوقدوا "شمعة نحيلة" في وسط ظلام دامس حاق بالأمة ورجالها؛ وتجرعنا معه قسوة و" لسوَعة كرابيج" أصحاب الجلابيب البيضاء ـ وهي في الحقيقة الأكثر سوادًا من قلوبهم ــ مبتدعي الفكر المشوَّش والمشوَّه المدسوس ــ بفعل فاعل ـ على عقيدتنا السمحاء؛ وندخل معه إلى "زنازين الروح"؛ قبل أن ندخل إلى "زنازين القهر" والمنع والمصادرة؛ وكبت الحريات لأصحاب الآراء التنويرية؛ التي تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع والبشر؛ والتبشير بضرورة إعمال العقل الذي وهبه الله للإنسان؛ ولنتجرع معه المعاني الرائعة لحديث الرسول الذي فحواه: " اللهم إني أعوذ بك من الهّم والحَزَنْ؛ وأعوذ بك من العجز والكَسَل؛ واعوذ بك من الجُبن والبُخل؛ وأعوذ بك من غلّبَة الدَّيْن وقهر الرجال"!! و.. آه من قهر الرجال !
ذاك القهر الذي قام بتلخيصه الكاتب الشاعر بعد تحوله من كلية الإعلام، بحسب رغبة الأب في فترة الصبا ــ وتحقيق رغبته الشخصية في الانطواء تحت مظلة كلية الطب ــ ليأتي الوصف في عبارات رشيقة رائعة ـ لاتخلو من الحسرة والحزن النبيل بانتقائه منمنمات اللغة وشياكة اللفظ والدلالة؛ كي نسترجع ــ معه وبكلماته ــ معاناة ومشكلات وكوارث جيلنا في مدرجات الجامعة وخارجها؛ من شراسة وهمجية أصحاب ( الغُطْرة والطاقية )؛ المدججين بالأسلحة البيضاء والجنازير؛ ونذهب معه إلى ذاك الزمن؛ لنعيش اللحظة بالصوت والصورة؛ وأكاد أقول: والرائحة “... حيث بدأت حكايات جديدة في مناخ مختلف؛ لأشهد عملية الولادة القيصرية لـ ( جنين ) الإسلام السياسي الذي تم بعملية تلقيح مجهري؛ شارك فيه الإخوان والنظام السياسي”.
أو لم يقُل لنا في صدارة هذا النزف الشعري الأدبي ـ وبدون إهداء كما تعودنا ـ على لسانه؛ فهو البطل والراوي في آن: " حياتك ليست هي ماعشته بجسدك؛ لكنها هي من فتات ذاكرتك؛ لذلك اعتبرت الذاكرة عدوًا لاصديقًا؛ وكما تقف خلف خطوط العدو تحاول اصطياد من يحاول قتلك؛ يجب أن تقف حلف خطوط الذاكرة؛ لتحاول اصطياد ماتبقى من فتاتها؛ الذي يفلت من بين أصابعك يومًا بعد يوم هى عدو لأنها بخيلة؛ وتظل تتشدد في بخلها حتى تمنع عنك حتى ـ تذكُّر أولادك، فلذات أكبادك؛ حين يزحف الزهايمر؛ ويترك الأميلويد بصماته على الدماغ؛ فيصبح المخ مجرد إسفنجة؛ يمنحك النبض والنفس.. إلخ ".
بلى.. قال ؛ وتركنا ننبش بأظافرنا جدران ذاكرتنا؛ لإعادة الإحساس والشعور بالمأساة/الملهاة في مسيرة جيلنا وجيله؛ ".. لأن قدر هذا الجيل هو أن يعيش في متاهة بيت جحا!... " ولنتساءل معه وبعباراته الرشيقة: "... ماهو الدين؟ هل نحن خُلقنا من أجل خدمة الدين؛ أم أن الدين خُلق لنا؛ لخدمتنا ولسعادتنا؟ العورَة والخطيئة؛ الجنس؛ الأخلاق الشرف؛ البكارة؛ الطهارة... إلخ ؛ كل كلمة تحمل أكثر معنى؛ تراوغ؛ تمارس معنا ونمارس معها لعبة الاستغمَّاية"!
إن "منتصر" ـ أقصد الكاتب الشاعر ـ يضعنا كالعرايا أمام أنفسنا وأمام مرآة التاريخ والأحداث الفائتة والمستمرة؛ ويضعنا أمام شبح العجز والقهر صاغرين؛ لانملك تحريك الأوضاع وبوصلة السياسة قيد أنملة؛ في اتجاه آفاق الحرية الحقيقية الكاملة للإنسان المعاصر؛ والمحاصر بعيون وكاميرات العسس في الشوارع، لأن " الشوارع حواديت.. بس حراس الشوارع حطُّوا للحدوتة.. حد".
ويستشهد على ذلك بقصيدة للشاعر شيركوه بيكه س كردستان ولنا أن نستطعم روعة وحلاوة الانتقاء، لنبكي معه مرة أخرى ــ والتي فيها يقول "
" في ورشة احد الحدادين
انتفضت مجموعة من القضبان المفتولة
قامت وهددَّت
وسلَّطت غضبها على نار الحداد
عندما عرفت|أنهم يريدوا أن يعيدوا تشكيلها
من نافذة لمكتبة عامة
لتصبح بوابة لسجن
يغلقونها على قمر شعرٍ أسير
و.. مرة اخرى أقول: آه من قهر الرجال!
و.. ألف (آه) عندما يتحول الحزن النبيل؛ إلى دموعٍ لاتُرى بين دفتي كتاب!
ولي عودة أكيدة لبقية حكاوي السيرة الذاتية بعد حين.. لنضحك ونبكي معًا؛ ولنحظي مرة أخرى بمُتعة القفز " خلف خطوط الذاكرة " ! وقد وقفنا وراء انتقاءات رائعة ل"منتصر" لكلمات تعكس رؤى عميقة لكبار الفلاسفة والكتاب هيأنا بها شاعرنا للدخول في معترك ذكريات وأحداث كل فصل من كتابه، كانت فكرة عبقرية بحق تنضاف إلى كل نمنمة حذق فيها وهو يلهثنا وراءه لنستوعب فكره المستنير لنشعل به قناديلنا في ظلام متربص بنا بغية النجاة..وإنا لمنتصرون!