قتل "النُطف المُحررة".. الاحتلال يغتال "الأمل الأخير" لإنجاب الأسرى الفلسطينيين (تحقيق)
"العالم يتجاهل تدمير 5 آلاف عينة ما بين أجنّة وبويضات ملقحة وحيوانات منوية، أتعرف ماذا يعني ذلك؟ يعني 5 آلاف حلم لـ(أب وأم)، كانت ربما هذه محاولتهم الأخيرة ليكون لهم أبناء يكبرون من حولهم، أن يكون لهم نسل في الحياة من بعدهم، أن تنبت شجرة العائلة بأطفال يحملون الراية من بعدهم، هذه واحدة من القصص الحزينة التي نعيشها في القطاع.. والبقية يعرفها العالم ويشاهدها صوتًا وصورة".. هكذا قال الدكتور بهاء الدين الغلاييني، مؤسس مركز "البسمة" للخصوبة.
في عام 1997 قرّر الدكتور بهاء الدين الغلاييني، الذي يعمل استشاريًا لأمراض النساء والتوليد، والذي حصل على تدريبات متقدمة في كامبريدج، تأسيس "البسمة" وهو على مشارف الخمسين من عمره، لإعطاء الأمل لآلاف الفلسطينيين ممن يعانون من أزمة في الإنجاب، أو لتلقي النطف المهربة من الأسرى وتجهيزها وزرعها في الزوجات.
استطاع المركز على مدار أكثر من ربع قرن أن يكون واحدًا من أهم مركزين في فلسطين المتخصصين في الأجنّة والبويضات الملقحة والحيوانات المنوية المحفوظة، غير أن الحلم تحطم في ديسمبر الماضي، ضمن ما تعرض له قطاع غزة من تدمير وقصف، حيث تعرض لضربة إسرائيلية، أدت إلى نزع الأغطية عن 5 خزانات كبرى تحتوي على سائل النيتروجين، ليتبخر السائل بالغ البرودة، فترتفع درجة الحرارة داخل الخزانات، ويقضى بذلك على أكثر من أربعة آلاف عينة من أجنة أطفال الأنابيب، وألف عينة أخرى لحيوانات منوية وبويضات غير مخصبة كانت مخزنة.
"قلبي محطّم إلى مليون قطعة، نعلم بكل جوارحنا ماذا كانت تعنيه الـ5 آلاف حياة التي تضرّرت، أو الحياة التي كانت محتملة، للآباء والأمهات في المستقبل وفي الماضي، فنصف الأزواج على الأقل لن تكون لديهم فرصة أخرى للإنجاب إذ لم تعد لديهم القدرة على إنتاج حيوانات منوية أو بويضات قابلة للتلقيح". هكذا علّق الدكتور بهاء الدين الغلاييني مؤسس مركز "البسمة" للخصوبة على استهداف المركز.
ويعلّق الدكتور محمد خميس عجور، كبير أطباء الأجنة في مركز "البسمة"، على واقعة استهداف المركز قائلًا إنّ "البنك كان يحتوى على قرابة 5 آلاف عينة فقدت جميعها، ما بين أجنّة وبويضات ملقحة وحيوانات منوية تم تخزينها لظروف طبية عند الزوج الذي يعاني من ضعف فيها، حيث نضطر للحصول على نسيج من الخصية وتخزينها لكي تستفيد منه الزوجة عندما تكون جاهزة للتلقيح".
وتابع "عجور" أنّ الضربة جاءت مخالفة لتوقعاتهم، حيث إنها لقذيفة مدفعية جاءت بعد الاجتياح البري للمنطقة وقصف المكان والحاويات التي كانت تحتوي على العينات: "كان الخوف في البداية أن نفقد البنك نتيجة عدم تزويده بالنيتروجين السائل المسئول عن حفظ العينات، نظرًا لأنه يتبخر، ويجب أن يتم تزويده باستمرار وإضافة الفاقد منه".
وتابع كبير أطباء الأجنة في مركز "البسمة": "عملية تصنيع النيتروجين السائل تعتمد على الطاقة الكهربائية والوقود، وتم قطع كل تلك الإمدادات عن غزة من بداية الحرب، والمزود المحلي لم يكن هناك احتياطي كبير، فكنا خائفين أن يأتي الوقت ولا نستطيع إمداد البنك بالنيتروجين السائل وأن تتلف العينات".
وعن لحظات فقد العينات نتيجة الضربة الإسرائيلية قال: "لم يكن هناك أي شخص في المكان، فالعينات يجب أن تكون مغمورة بالسائل، ولو توقف عنها مباشرة تتلف، لذلك لم نستطع إنقاذ أي عينة، سواء العينات المتعلقة بالأسرى في السجون أو عينات الفلسطينيين الذين كانوا يتمنون رؤية أطفالهم أمام أعينهم".
"مهند" هو أول طفل تم تسجيله من خلال عملية ناجحة لولادة طفل من النطف المهربة في أغسطس 2012 للأسير عمار الزين، المعتقل منذ يناير 1998 والمحكوم عليه بالسجن المؤبد 26 مرة، و25 عامًا بتهمة تنفيذ عمليات خلّفت قتلى إسرائيليين، غير أنه بعد عامين أنجب طفله الثاني "صلاح الدين".
مجد الريماوي يرعب السجّان
في الثامن عشر من يونيو 2001، ألقت قوات الاحتلال الإسرائيلي القبض على عبدالكريم الريماوي، صاحب الـ23 عامًا حينها، في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أو كما عرفت بـ"انتفاضة الحجارة"، والذي تعرض حينها لإصابة بالغة أدت إلى استئصال جزء من أمعائه.
وقْع الخبر كان قاسيًا ومؤلمًا على زوجته ليديا ريماوي، فالزوجان رزقهما الله بابنتهما رند قبل ثمانية أشهر فقط من اعتقاله، ولم تُعطِ الرضيعة إلا بضعة ابتسامات للأب الأسير المولود في بلدة بيت ريما شمال غرب رام الله، وربما لم يسمع من مخارج حروفها ما يفيد بكلمة "بابا" إلا بعض التهتهات.
أعوام تمرّ والزوج الأسير الذي كان قبيل اعتقاله طالبًا في جامعة بيرزيت في غياهب السجون، بعد أن قضى عليه بالسجن 25 عامًا، غير أنّ الزوجة تبدّل ألمها قوة، وقررت بالاتفاق مع زوجها وبترتيبات مع العائلتين أن تُهرب "نطفة" من زوجها يتم تلقيحها بها في مركز رسمي، غير أن "النطفة" خرجت من غياهب السجون ولم تكن صالحة لأكثر من مرة.
لم تيأس السيدة الفلسطينية وحاولت هي وزوجها مجددًا، لينجح الأمر ويرزقان بالابن مجد، وتكون ثاني أسرة لأسير تنجب عن طريق النطف المهربة من سجون الاحتلال الإسرائيلي-حسب قول الزوجة.
بنبرات القوة والتحدي تفخر ليديا بما صنعته هي وزوجها: "فخورة بهذه التجربة، وحتى مع عدم نجاحها في البداية لـ3 مرات، كان عندي استعداد أن أعيدها أكثر وأكثر إذا لزم الأمر. فخورة بالتحدي وكسر الاحتلال والرعب الذي دخل لسجن نفحة الصحراوي عند زيارتي لزوجي وأنا أحمل مجد ابن الـ3 أسابيع".
نظرات الخوف والرعب والكسر في عيون جنود الاحتلال عندما علموا بأن الطفل ابنا لـ"عبدالكريم الريماوي" لم تنسها الأم ليديا أبدًا: "رأيت الرعب والقلق في عيونهم، وتجمع عدد كبير من الجنود حولي وجاءت الصليب الأحمر الإسرائيلي لتفحص الطفل وهل هو ابن للأسير، وجاءني جندي قال لي بصوت عالٍ: أنا أعرف عبدالكريم من ١٢ عامًا من أين هذا الطفل؟".
وعلى الرغم من حرمان الأسرة من الزيارة: "بقينا في ساحة السجن.. ولكن هذا المشهد أعطاني قوة وعزة وشموخًا، فخورة بصنع الأمل لزوجي وتحقيق الحلم".
تم إنجاب 125 طفلًا لمعتقلين فلسطينيين في السجون الإسرائيلية عن طريق النطف المهربة.
المصدر: هيئة شئون الأسرى والمحررين الفلسطينية
شهود وقواعد صارمة
تمرُّ مراحل خروج النطف المهربة للأسرى من السجون بقواعد صارمة، يصرّ على تنفيذها عدد كبير من كبار العائلات، يتمثل بعضها في وجود عدد من الشهود في المعتقل، ربما ما بين 4 و6 شهود موثوق فيهم، وفي أمانتهم بقول الحق وكتمان الأمر حتى لا تنكشف الخطة ويعرف أمن السجن بالمخطط- حسب قول الجد الفلسطيني مسعود شيخة.
ويشير الجد السبعيني إلى وجود عدد من الشهود الآخرين ولكن هذه المرة خارج السجن، والذين يشهدون على خروج النطفة إلى النور، يكونون ما بين أهل للأسير وأهل للزوجة، وكبار العائلة، وطبيب أو متخصص في الأمر.
"حياة الأسير قاسية، يموت مرتين، في عمره الذي قرر طواعية أن يفدي به وطنه، وفي وطنه المحتل من الغاصب، لذلك يريد أن يعيش مرة واحدة من خلال أولاده وأحفاده، فالاحتلال لا يريدهم أن يعيشوا لهذا أيضًا ويمنعهم من ممارسة حقهم الشرعي، لذلك فالأمل دائما في تهريب النطف ونجاح تلك العمليات التي تكون نسبها ضعيفة للغاية، ولكن الأمل دائما نعيش به وسنموت عليه" هكذا يعبّر الجد الفلسطيني عن حياة الأسرى.
وفي بحث حول النطف المهربة من السجون، تمكّنت من خلاله الباحثة عبير الخطيب في الفوز بالبحث العلمي الأفضل على مستوى الوطن العربي عام 2019، والذي استطاعت من خلاله مقابلة عدد من السيدات اللاتي تمكن من الولادة عن طريق النطف المهربة "معظم زوجات الأسرى هن اللواتي طلبن الزراعة حتى يأخذن حقهن في الأمومة".
وعن اشتراطات إتمام تلك العملية أوضحت الخطيب: "الحصول في البداية على موافقة العائلتين، ثم يبدأ الأسير تحضير نفسه، وتحضير الشخص الذي سيحمل النطفة، حتى لا تُحفظ بطريقة خاطئة كما حدث في عدد من التجارب، لكي تصل إلى المركز الطبي سليمة وليس تالفة".
وتابعت: يقوم الأسير بإبلاغ مسئول حركته في السجن عن عزمه تهريب النطفة، وعند الموعد المحدد يكون اثنان من الشهود منتظرين عند باب الحمام، ومثلهما في السجن، ثم يتم الإبلاغ بأن (فلان) هو من سيحمل النطفة، وعند الزيارة الوجاهية التي يسمح فيها للأسير بلقاء أحد أفراد العائلة يتم تسليمها، أو من خلال زيارات مختلفة لأسرى آخرين.
بعد التسليم في السجن، تبدأ المرحلة الثانية وهي تسليم النطفة لعائلتي الأسير وزوجته الذين يكونون بالانتظار، وعادة ما يكون والد الأسير ووالد زوجته، وإذا كان أحدهما متوفى أو يتعذر حضوره، فلا بد أن يحضر بدلا عنه قريب من الدرجة الأولى، ويتم نقلها إلى المركز الطبي، الذي يقوم بمعالجتها وتجميدها وحفظها، حتى تتهيأ زوجة الأسير لعملية الزراعة، مع التوقيع النطفة باسم صاحبها الأسير.
وتتجه العائلات لأكثر من أسلوب للإعلان عن زراعة النطف المهربة، إما من خلال إبلاغ والد الأسير ووالد الزوجة للناس بعد صلاة العشاء، أو من خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة، أو من خلال المناداة في مكبرات المساجد، أو بشكل منغلق على العائلتين فقط حتى لا يتعرض الأسير وأهله إلى أزمات وعقوبات قاسية.
نُطفة فى كيس شيبسى
ويقول أحد المتخصصين في مراكز الإخصاب في غزة: "عينات الأسرى تختلف من راجل للآخر حسب وضعه الصحي وظروف النقل، فكان هناك عينات تأتي بعد 10 ساعات و12 ساعة ولكنها ميتة، وعينات أخرى تأتي متأثرة وأخرى جيدة بعض الشىء. كنّا نعطي تعليمات للحالات، وعند تطبيقها بشكل صحيح تكون فرصة وصول العينة سليمة عالية، لذلك فمهم أن يكون الأسير وأسرته لديهم وعي بالطريقة المثالية للتعامل مع العينة".
ويرى المتخصص أن الأسير يعيش حياة غير طبيعية، وأن الظروف الحياتية صعبة، موضحًا: "من الممكن بسبب ظروفه الصحية أنه لم يتمكن من تفريغ السائل المنوي منذ شهور، فمن بين التعليمات الهامة والصحيحة هو عدم حبس العينة لأنها طبيًا تكون ضعيفة، لذلك نعطيه توصية بأن يقوم بتفريغ عينة في البداية، وبعد يوم أو يومين يقوم بتفريغ العينة التي يريد إرسالها، لأنها تكون لديها قدرة على التحمل أكثر".
وأكد: "العينة المحبوسة تكون معرضة لظروف غير صحية، والحيوانات المنوية فيها تكون قدرتها على التخصيب ضعيفة للغاية، كما أنّ العبوة التي يتم النقل فيها يجب أن تكون معقّمة وجافة، وألا يكون فيها أي سوائل أو آثار لأي مواد كيميائية أو سامة تؤثر عليها، مع العلم بأن الظروف عند الأسير غير عادية، وأحيانا يضع العينة التي يقوم بإرسالها في كيس شيبسي أو كيس نايلون أو علبة دواء، بجانب الطريق الذي يجب ألا تتعرض العينة فيه لدرجات حرارة عالية للغاية أو منخفضة".
"سفراء الحرية" هو لقب الأطفال الجدد، لأنهم جاءوا إلى الدنيا وآباؤهم في السجون الإسرائيلية.
قدورة فارس وزير شئون الأسرى السابق ورئيس نادي الأسير الفلسطيني
ميلاد وليد دقة
في الثالث من فبراير عام 2020، كان الفرح عنوانا لمنزل الأسير الفلسطيني وليد دقة الذي ظلّ معتقلًا في السجون الإسرائيلية منذ الخامس والعشرين من مارس عام 1986 حتى وفاته في أبريل 2024، كانت الزغاريد تُسمع، الجميع يهنئ الأسرة بولادة الطفلة "ميلاد" التي جاءت بعد تهريب نطفة من الأسير، مرّت بعمليات التلقيح والتخصيب حتى صارت روحًا تتنفس.
لم يكتب للأسير الذي توفي من عمر 62 عامًا داخل مستشفى "آساف هروفيه" من مدينة باقة الغربية أن يعيش هو وطفلته في الحياة الدنيا إلا ثلاث سنوات، ورفضت السلطات الإسرائيلية تسجيل الطفلة بشكل رسمي وكمولودة شرعية في سجلاتها، وزيارتها لوالدها إلا بعد أن أجرت فحص الحمض النووي وهي في عمر عام ونصف.
تزوج وليد وسناء سلامة عام 1999 في السجن بعد أن قدما عددا من الطلبات لإقامة العرس وعقد القران في حضور العائلتين وعدد من الأسرى، ليتم الموافقة بعد عناء شديد، فتحكي الزوجة عن تلك اللحظات قائلة: "دخلنا بالسيارة وسط أجواء صعبة، وكانت النوافذ جميعها ممتلئة بوجوه الأسرى، زفّونا بالطبول على الأدوات المتوفرة لديهم من الأواني والحلل".
أقيم الفرح لثلاث ساعات من الحادية عشرة صباحًا وحتى الثانية ظهرًا، بحضور الشيخ الذي قام بعقد القران: "الأجواء كانت خرافية وجميلة للغاية، وكان هناك تصوير بسيط في غرفة صغيرة، وعلى الباب السجّان، لتكون تلك المرة هي الأخيرة التي ألتقي به بدون شبك وسياج وفواصل".
أعوام طويلة مرت ولم يستطع الزوجان الإنجاب بشكل رسمي عن طريق المقابلات المباشرة، حيث لم توافق إسرائيل على الأمر، ليقرر الطرفان أنه لا بديل إلا بتحرير "نطفة" يتم تهريبها من ظلمات السجن وتلقيحها للزوجة، لينجح الأمر ويسفر عن الطفلة ميلاد.
انترعت سناء بعد عام ونصف من ولادة ميلاد حكما قضائيا من المحكمة بأن تستطيع الطفلة زيارة والدها في السجن: "طلب مني حينها أن تدخل ميلاد إلى الغرفة مشيًا على الأقدام ليراها كاملة، تلك اللحظات كانت قاسية للغاية، فالجميع كان يبكي. فالسجن عاش لحظات من التخبط والقلق عندما علموا بصدور الحكم وبأن وليد سيتمكن من رؤية طفلته".
أثنت "أم ميلاد" على زوجات الأسرى وأمهات النطف المحررة، "هن لسن ضعيفات على الإطلاق، وإنما مؤمنات بقضيتهن، ويتصرفن بالشكل الذي يتلاءم مع وضعهن، جميعهن لديهن قوة لا مثيل لها، وعليهن ألا يبررن لأحد حول تلك القضية، تصرفن فقط على تحرير النطفة وإنجاب الأطفال، ليصنعن الحياة والمستقبل".
بذرة أمل جديدة
وكانت الدكتورة ليلى غنام، محافظ رام الله والبيرة، قد أكدت عبر حسابها الرسمي على "فيسبوك" أن زوجة الأسير أمجد النجار وضعت مولودتها من خلال نطفة محررة من زوجها من داخل الأسر.
وترى "غنام" أن الأمر بمثابة بذرة أمل جديدة رغم الألم، ومن وسط كل ركام حرب الإبادة التي تستهدف كل ما هو فلسطيني في قطاع غــزة والضفة والقدس، فزوجات وعائلات الأســرى هم مصدر فخر واعتزاز لأبناء الشعب الفلسطيني، وأن المولودة الجديدة جاءت لتعيد زرع الحياة من وراء قضبان الزنازين التي يرتكب فيها المحتل الإسرائيلي داخلها أبشع الجرائم بحق الأسر الفلسطينية.
أربعة توائم
ومن قطاع غزة، تمكن الأسير الفلسطيني المعتقل في سجن نفحة جنوب إسرائيل المحتلة أحمد الشمالي، صاحب السبعة وثلاثين عامًا، من تهريب نطف من داخل معتقله الذي يقضي فيه حكما بالسجن مدته 18 عامًا، لينجح الأمر وتتمكن زوجته "أم عبيدة" صاحبة الأربعة وثلاثين عامًا من إنجاب أربعة توائم، ثلاثة أولاد وبنت.
لم يكن الأمر يسيرًا على الأسرة التي تكبدت أموالًا طائلة للعلاج، بجانب قيام الأطباء بتحويلها في الشهر السادس من الحمل للعلاج في مستشفيات الضفة الغربية، إلى أن تمكنت من الحمل في الشهر السابع في مستشفى المقاصد في القدس الشرقية، بجانب وضع الأطفال الأربعة في الحضانة لمدة شهر ونصف حتى استقرت حالتهم وخرجوا بسلام.
وترى أم الأسير أن الفرحة ستكتمل مع خروج نجلها من السجن واحتضانه أطفاله الأربعة الذين قدموا عن طريق النطف المحررة "عبدالرحيم ونجاح وريان وركان"، والاثنان الآخران اللذان يبلغان من العمر 17 و15 عامًا.
لهفة وانتصار
أحد المتخصصين في مراكز الإخصاب في غزة، والذي كان مسئولًا عن عدد كبير من حالات النطف المهربة من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يقول: "عقلية الاحتلال في التعامل مع الشعب الفلسطيني واضحة، كل شىء مستهدف وكل شىء مباح، والإنسان الفلسطيني يدفع الثمن دائمًا، فأغلب الأسرى الذين تعاملت معهم في عمر الإنجاب ما بين 20 و45 أو 50 سنة على الأكثر".
وأكد: "الحالات التي تتحمس للإنجاب هم الأسرى الذين لديهم فرصة للخروج من السجن بعد سنوات، ويريدون أن يخرجوا ويعيشوا السنوات المتبقية في حياتهم مع أولادهم، غير أن هناك حالات أيضًا أقدمت على تهريب النطفة وهم محكوم عليهم بالمؤبد".
هناك عدد كبير من الحالات لم تنجح معها عملية الزراعة بعد 10 مرات، وحالات أخرى قامت بعمل 5 محاولات للزراعة، مشيرًا إلى أنه "ليس كل الحالات التي حاولت قد حصلت على النجاح، هناك حالات ضلّت تفشل سواءً تكون العينة ميتة، أو سليمة ولكنها لا تصلح مع عملية الزراعة".
ويُبيّن المتخصص في الإخصاب في غزة: "يتم تنسيق خروج العينة مع عائلة الزوج والزوجة، ومع عميد العائلة، وبعض الجهات العشائرية، ويتم الإشهار والإبلاغ بعدد من الطرق بأن فلانة زوجة الأسير فلان تم عملة عملية زراعة لها عن طريق نطفة زوجها المحررة".
وتابع: "لكي نستقبل العينة ونقوم بتخزينها لا بد من موافقة مكتوبة من أهل الزوج والزوجة مجتمعين، وأي شخص ينوب عن الزوج لا بد وأن يكون من أقارب الدرجة الأولى، لأن هناك مسئولية قانونية على المركز".
ويرى أحد المتخصصين في مراكز الإخصاب في غزة أن تنفيذ تلك العمليات يزيد من الأمل عند الأسير في الخروج من السجن لكي يعيش مع أسرته، ويزيد لديه الشعور بالانتصار والقوة، فتلك الحالات لديهم لهفة على استكمال هذا الأمر أكثر من الناس العاديين، فهم محرومون من أبسط القواعد الحياتية. فعدد منهم قد خرج واحتضن أولادهم، وكان أمرًا مهما للغاية وجميلًا وله تأثير نفسي كبير عليهم وأسعد قلوبهم.
خطوات نضالية
ويرى ثائر شريتح، الناطق باسم هيئة شئون الأسرى والمحررين الفلسطينية، أنّ عملية تهريب النطف هي تحد للواقع المؤلم الذي يعيشه الأسرى داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية، فمن خلال تلك الخطوة الجريئة والنضالية استطاعوا التغلب على سياسة الحرمان التي أرادها لهم المحتل، وأصروا على أن يكونوا قادرين على إنشاء وبناء أسر وإنجاب أطفال.
وأكد "شريتح": "هذه الخطوة نرى فيها مساحة من الصبر والصمود والتحدي والنجاح على السجان الإسرائيلي، فالأمر يحمل كل معاني القوة والإرادة، وعلى الجميع أن يتخيل كيف يفكر أسير فلسطيني ومعتقل منذ سنوات وسيظل في السجن لسنوات طويلة ومنهم من هو مسجون طوال حياته، خارج الصندوق ويصر على أن يكون لديه حياة مستمرة ومتطورة من خلال عملية الإنجاب بهذه الطريقة".
"عملية تهريب النطف أصبحت معادلة رئيسية في الصراع، حيث إن الأسرى استطاعوا أن يجعلوا من حياة الحرمان خطوة أخرى مختلفة عما أراد الاحتلال، وحلّقوا بعيدا عن الأسلاك الشائكة، وخلقوا حياة من داخل غرفهم. نحن نرى أن هذه الخطوة قمة في القوة والإرادة وتمثل كثيرًا لدى الشعب الفلسطيني الذي يؤمن بضرورة استمرار هذا التحدي، لكي يكون هؤلاء الأطفال رسالة حية وصوتا للعالم بأنه كفى للظلم والحرمان والبعد القسري"- حسب قول الناطق باسم هيئة شئون الأسرى والمحررين الفلسطينية.
ووجه "شريتح" رسالة تشجيع للأسرى الفلسطينيين: "نشجع كل الخطوات التي يريد الأسير الفلسطيني التغلب على الحرمان، خاصة بعد إقرارها من الإفتاء والمتخصصين في الشأن الديني، ولأهميتها هناك حرص كبير على أن تمر بكافة الإجراءات الشرعية والاجتماعية والطبية، وهذا الحرص فيه الكثير من المسئولية، وعلى زوجات الأسرى أن يكون لهن فخر كبير فيما يتم من خطوات نضالية، فيها الكثير من معاني الصبر والوفاء والقوة".
إجازة شرعية
أجاز الشيخ عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى، إجراء عمليات التلقيح من خلال النطف المهربة من الأسرى الفلسطينيين قائلًا: "لا مانع شرعًا من إجراء عملية التلقيح للزوجة، سواء كانت مدخولا بها أم لا".
وحدد الشيخ عكرمة عددًا من الاشتراطات التي لا بد من توافرهات مجتمعة في عملية التلقيح، وهي: "وثيقة عقد الزواج بين الزوجين، وموافقة الزوجة على إجراء عملية التلقيح، وأن يكون الحيوان المنوي من الزوج، وأن تكون البويضة الأنثوية من زوجته فقط، وضرورة إجراء العملية في مركز طبي معروف ومرخص، وحضور شاهِدين، أحدهما من طرف الزوج، والآخر من طرف الزوجة، مع حضور أحد المحامين الثقات للتوثيق، وإشهار العملية عبر وسائل الإعلام أو أي وسيلة أخرى".