الفرار إلى «الطائف»
مثّل فتح مكة على يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حدثًا مذهلًا لعرب الجزيرة العربية ككل، فقد هالهم أن يتمكن النبى من العودة إلى بلده مع نفر ممن هاجر معه وعدد من أنصاره من أهل المدينة فى جيش كبير- يقدر عدده بالآلاف- زحف نحو مكة، ليستسلم له أهلها بلا حرب، ويدخلها منتصرًا، ويحطّم الأصنام، لترفرف راية التوحيد فى ربوع مكة وفوق أركان الكعبة المشرفة. كانت أكثر المناطق رعبًا مما حدث القرية الثانية المنافسة لقرية مكة، المتمثلة فى «الطائف»، وكانت الأجيال التى تعيش فيها من «ثقيف» تذكر ما فعلته مع النبى، صلى الله عليه وسلم، قبل ما لا يزيد على ٨ سنوات، حين لجأ إليهم يستنصرهم على مشركى مكة، فرجموه بالحجارة حتى أدميت قدماه الشريفتان، وطردوه من أرضهم.
كانت «ثقيف» جزءًا من «هوازن» ومعها «نصر» و«جشم»، والكل يخضع لسلطة «مالك بن عوف» ملك هوازن. أُصيب «مالك» وسادة هوازن بالقلق والتوجس بعد أن تمكن النبى من إخضاع مكة وأهلها، وبدأوا فى التخطيط لمهاجمة النبى والمسلمين، وأخذوا فى إعداد العدة لذلك. وضع «مالك بن عوف» خطة عجيبة للحرب، فقد أمر كل من خرجوا معه للقتال باصطحاب نسائهم وأبنائهم وأموالهم، حتى يدفعهم ذلك إلى عدم الفرار إذا حميت المعركة، والثبات دفاعًا عن نسائهم وأبنائهم وأموالهم. وقد كانت هذه الخطة مثار سخرية من جانب «دريد بن الصمة»، وكان وقتها شيخًا طاعنًا فى السن، ويمثل رمزًا عسكريًا مهمًا من رموز «هوازن»، فحين وصل إلى حيث يعسكر الجيش سأل: أين مالك بن عوف؟ قالوا: هذا مالك.. ودُعى له.. قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام.. ما لى أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير؟ قال: سُقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم.. قال: ولمَ؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.. قال: راعى ضأن والله.. هل يرد المنهزم شىء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه.. وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك.. ونصحه بالكمون للمسلمين بين شعاب الجبال وإمطارهم بالحجارة فى البداية ثم بالنبال والسلاح بعد ذلك.
كانت خطة مالك وبالًا بالفعل على «هوازن» و«ثقيف»، رغم النصر الأولى الذى حققوه على المسلمين يوم حنين: «لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين»، اهتز جيش المسلمين بعنف بعد الهجمة المفاجئة التى قامت بها «هوازن» عليهم فى وادى حنين، بعد أن اختبأ جنوده فى شعاب الجبال وانتظروا حتى دخل المسلمين الوادى فأمطروهم بالحجارة، ثم شدوا عليهم بالسلاح، فارتج الصف المسلم رجًا عنيفًا، وهزموا هزيمة مروعة، وتراجعوا وانفضوا من حول الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو يناديهم بالعودة. لم يثبت مع النبى- من بين ١٢ ألف مقاتل- سوى ٨٠ فقط. ينقل «ابن كثير» قول عبدالله بن مسعود الذى يقول فيه: كنت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم حنين فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلًا من المهاجرين والأنصار، فنكصنا على أعقابنا نحوًا من ثمانين قدمًا، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. تمكن جيش المسلمين بعد ذلك من جمع شتاته، وثبتوا مع النبى، صلى الله عليه وسلم، وأمدهم الله تعالى بنصره: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين». فرغم نجاح الكمين الذى اقترحه «دريد بن الصمة» ونفذه «مالك بن عوف» فى بداية الحرب، فإنه خاب فى نهايتها، وتمكن المسلمون من مشركى «هوازن» و«ثقيف» وأخذوا منهم سبيًا كبيرًا وأسلابًا كثيرة، وكانت هذه المغانم سببًا فى أزمة داخل الصف المسلم، فقد عتب قوم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين أعطى قومًا ومنع آخرين، فلما وصل ذلك إلى النبى قال: إنى أعطى قومًا أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل قومًا إلى ما جعل الله فى قلوبهم من الخير والغنى. وقد حلت كلمة النبى، صلى الله عليه وسلم، هذه الإشكالية.
كانت معركة حنين فى شوال سنة ثمانٍ من الهجرة، وانتهت بانتصار المسلمين، وفرار أهل «ثقيف» إلى الطائف والتحصن بها، بمن فيهم مالك بن عوف، وقد سأل عنه النبى الوفد الذى جاءه من «هوازن» بعد الحرب بأشهر، فأخبروه أنه بالطائف، فقال لهم: أخبروه بأنه إن أتانى مسلمًا رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فلما بلغ مالك ذلك انسل من «ثقيف» حتى أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بالجعرانة أو بمكة فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، واستعمله رسول الله على من أسلم من قومه. ويمثل حصار الطائف واحدًا من أهم الخطوات العسكرية التى قام بها النبى، صلى الله عليه وسلم، بعد غزوة حنين. وكان للمدينة سور وأبواب محصنة، وقرر النبى حصارها، لتبدأ فعاليات «غزوة الطائف»، وذلك فى محاولة للسيطرة على القرية العظيمة الثانية التى مثلت منافسًا أساسيًا لمكة، وطمح سادتها كما طمح سادة مكة إلى حكم الجزيرة العربية، لكن الله تعالى شاء أن يخضع العرب جميعًا للإسلام، ويكون فى هذا الدين عزهم ومجدهم.