سعد زغلول: مفيش فايدة
ما زلنا فى إطار مناقشة مسألة المقولات الشائعة فى التاريخ، وبيان مدى عدم مصداقيتها، ومحاولة تفسير السر وراء تقبل الناس لها، ورفضهم الواقع التاريخى.
ومن أخطر هذه المقولات الشائعة، وأكثرها سلبية، المقولة المنسوبة للزعيم المصرى الكبير سعد زغلول: «مفيش فايدة»، وتأتى خطورة هذه المقولة من نسبها إلى سعد زغلول، زعيم ثورة ١٩، الثورة الشعبية الكبرى فى تاريخ مصر فى القرن العشرين، كما أن المقولة، فى حد ذاتها، تدعو إلى السلبية واليأس، وهو ما يتناقض مع روح ثورة ١٩، التى كانت أول ثورة شعبية فى العالم فى أعقاب الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا العظمى، التى خرجت منتصرة من هذه الحرب.
وبدايةً لم أعثر فى أى مصدر تاريخى موثوق به ما يؤكد هذه المقولة المنسوبة إلى سعد زغلول، كما أن هذه المقولة تتناقض فى حقيقة الأمر مع طبيعة الشخصية الكاريزمية التى كان يتمتع بها زغلول، الأكثر من ذلك أن سعد كان سياسيًا عنيدًا يتوق إلى خوض المعارك السياسية، يُذكَر عنه أنه كان يقول لرفاقه كل صباح: «هل من واقعة؟.. نحن لها». وقد شهد أعداؤه، قبل أصدقائه، بذلك. يصف السياسى الكبير إسماعيل صدقى فى مذكراته، رغم خلافه مع سعد والوفد عمومًا، سعد زغلول قائلًا: «كان سعد زعيمًا وطنيًا، بكل ما تؤديه الكلمة من معانٍ، كان سياسيًا قديرًا وقائدًا ماهرًا فى أوقات الشدائد، وربانًا بارعًا صارع الأنواء».
إذن من الصعب أن تتماشى هذه المقولة مع طبيعة شخصية سعد زغلول وما شهد به الجميع من عزيمته. وطرحت على نفسى أنه ربما قال سعد زغلول هذه المقولة فى إطار فشل المفاوضات المصرية- البريطانية فى أعقاب ثورة ١٩، سواء المفاوضات التى قام بها هو نفسه، أو قام بها بعض الزعماء المصريين. لكن الواقع التاريخى لا يتماشى مع هذا الطرح؛ إذ كان سعد عنيدًا وقويًا فى مفاوضاته مع الإنجليز، ورقيبًا وطنيًا على مفاوضات الآخرين مع الإنجليز، حتى إنه هاجم بعض الساسة المصريين لتهاونهم مع الإنجليز، قائلًا: «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس» وهى مقولة قوية وحادة تعنى أن هؤلاء الساسة هم «برادع الإنجليز»، على حد قوله فى موقف آخر.
الأخطر من ذلك أن هناك رواية شعبية تؤكد قول سعد هذه المقولة لزوجته صفية زغلول «أم المصريين»، وتُنسَب هذه المقولة لسعد بنبرة قاسية بل سوقية: «غطينى يا صفية وصوَّتى، شعب مصر مفيش منه فايدة»، والحق أن هذه ليست لغة حديث سعد زغلول، ولا يقول ذلك لصفية هانم زغلول، ابنة مصطفى باشا فهمى، رئيس الوزراء المصرى، وأم المصريين، والأهم أن سعد لم يفقد ثقته فى شعبه، كما لم يحب الشعب المصرى زعيمًا طيلة النصف الأول من القرن العشرين مثلما أحب سعدًا، وتشهد على ذلك جنازة سعد زغلول، وبناء الشعب المصرى ضريح سعد.
هل قال سعد زغلول لزوجته هذه العبارة: «مفيش فايدة» فقط أثناء مرضه الأخير، تعبيرًا عن أنه آن أوان الرحيل؟ لكن يبقى السؤال الأهم: لماذا يحاول البعض اختزال كل التاريخ الوطنى لزغلول فى هذه المقولة الغريبة والسلبية؟ ولماذا عاشت هذه المقولة معنا حتى الآن؟!