انحيازات عزمى عبدالوهاب ليست كما تبدو دائمًا
أعرف الشاعر الكبير عزمى عبدالوهاب منذ زمن، ربما يعود إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، أحب قصيدته، ولقاءاتنا القصيرة والعابرة، أحب جنونه الذى لن تكتشفه مهما جاهدت لرصد ملامحه، أو حاولت تتبع علامات وجوده، ذلك الجنون الذى يحترف التخفى وراء ملامح وجهه الجاد معظم الوقت، والسارح فى الملكوت ما تبقى من ذلك المعظم، فلا تراه إلا إذا خلا إلى شياطينه، وخلوا إليه، ليكون الشعر ساحته الأثيرة، ولتكون قصيدته المحملة بتفاصيل الروح التواقة للتحليق بعيدًا عن تلك الأرض المشبعة بالفقر والفقراء، وأحلام العدالة بكل صورها.
قصيدة عزمى عبدالوهاب، كما أحبها، هى المساحة الوحيدة التى يسمح فيها لجنونه أن يحلق واضحًا لا لبس فيه، بلا قيد ولا شرط.. هنا تراه العاشق المحكوم بميراث القرى، الحالم بتكسير ما يكبل الإنسانية من تراث عامر بالمحظورات والممنوعات، فتراه «كوحشٍ يقتلع مدينة ساحلية من جذورها، ويعلقها فى الهواء.. بين صدره وقائمتيه الأماميتين».
هنا، عندما يحضر الشعر، يمكنك أن ترى عزمى عبدالوهاب كما لن تراه فى المقهى، أو المكتب، أو فى جلسة منزلية خالصة المودة، هنا.. ليس هو ذلك الوجه الطيب، الناطق بحكايات الفلاحين والعمال وطلاب الجامعة، الذى قد تظن به الحكمة، فهو، فى الحقيقة «مجنون ابن مجانين»، يعرف الكثير ولا يحكى شيئًا.. يدخر كل ما يراه إلى موعد الكتابة، وإلى لحظة الشعر، عندها فقط سيقول لك: «ليت روحه تخفُ، ليت الطاقة الشريرة التى يدعيها لنفسه كانت حقيقية»، أو يعترف بالحقيقة التى تظن أنها بديهية، «اسمى الحقيقى: عزمى أحمد عبدالوهاب، ربما.. حمل هذا الاسم غيرى، فمنذ كنت فكرة شريرة فى ذهنى رجل وامرأة، وأنا ألح عليهما ألا يدخلانى فى التجربة»، تلك الحقيقة البديهية التى يقدم لها بقوله «كلنا نكذب، منذ أن دحرجتنا طفولتنا من عصا الأب إلى الشارع الجانبى، بسلة كبيرة.. ملأناها بأكاذيب سوداء كثيرة وطفولة أقل بياضًا».
هنا لا تخلو قصيدة من انحياز أيديولوجى، اجتماعى، جمالى، ربما يدفعنى إلى التفكير فى ذلك الارتباط الذى يبدو أنه بلا بداية ولا نهاية، بين الشعر والشعراء، وبين الرغبة الدائمة فى التجديد، وبين الضيق بالمألوف من أفكار وتصورات وأطر، حتى ولو كانت مجرد أطر شكلية. وأغلب ظنى أن الإبداع العالمى، يدين فى مجمله للشعراء بصورة أكبر من غيرهم، فغالبًا ما ارتبطت المدارس والتيارات الجديدة فى الأدب والإبداع بالشعراء، يليهم النقاد والمفكرون، ثم كتاب القصة القصيرة والروائيون بدرجات أقل، والحقيقة أننى حاولت كثيرًا أن أفهم ماذا يربط الشعراء بحتمية اتخاذ مواقف أيديولوجية على تنوعها، سياسية واجتماعية واقتصادية، وإنسانية قبل ذلك كله.. بعبارة أدق، لماذا تكون انحيازات الشعراء أكثر وضوحًا من غيرهم؟! خصوصًا مع تطور أشكال كتابة القصيدة، وتخليها عن جماهيرية الإلقاء فى المحافل العامة، وميلها إلى دور المعالج النفسى الذى يكون أكثر ارتياحًا وأريحية فى الجلسات الثنائية الخاصة، المفكر الغارق فى تأملات رحلة الإنسان فى عالم لا إنسانى، وحياة لا يعرفها ولا تعرفه، الحائر فى متابعته لمسارات الدنيا، وما يحيط بها من خيالات، وأوهام.. وحقائق.
قصيدة عزمى عبدالوهاب، فى تصورى، هى النموذج الأبهى للقصيدة الجديدة التى جاهد «مشاهير» الحياة الثقافية المصرية والعربية فى التنظير لها، ونسبتها إلى النثر، وتقسيم المشهد الشعرى إلى ثمانينيات وتسعينيات وألفينيات وأشياء أخرى فارغة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الكتابة الشعرية الحقيقية التى أشك فى إجادتهم لها، فتفرغوا للتصريحات الصحفية والتليفزيونية والجلوس فى قاعات الندوات، وزوايا القرب من السلطات «النقدية والسياسية أو أيًا كانت»، فيما حافظ عزمى على إيقاع كتابته، وتواترها، وحافظ على قراءة ما كتبه، وما يكتبه، وتطويره، ومده بما يلزم من أدوات، وأفكار، وطروحات.. حافظ على أن يكون الشعر هو السيد الأوحد فى رحلته، فكانت دواوينه «النوافذ لا أثر لها»، و«الأسماء لا تليق بالأماكن»، و«بأكاذيب سوداء كثيرة»، و«بعد خروج الملاك مباشرة»، و«حراس الفنار العجوز»، و«شخص جدير بالكراهية»، و«وجوه تطل من مرايا الروح»، و«يمشى فى العاصفة»، وكلها محملة بالتجريب، وباقتراف إمكانات جديدة، اجتراحها وسبر أغوارها واستكشاف لما تفضى إليه، بالرأى أحيانًا، وبالموقف الاجتماعى غالبًا، والرؤية المتجاوزة لأى جماليات أو انفعالات لحظية، وكثيرًا ما يأخذه الحنين إلى أوقات سابقة، لكنه حنين الرغبة لما يمكن استعادته، فلا حنين لديه إلى ما لا يمكن، أو إلى ما تجاوزته الحياة، لا حنين لموتى أو راحلين مثلًا، لكن حنين إلى قبلة مختطفة، إلى مظاهرة ضد حياة غير عادلة، إلى رائحة الميدان المشبعة بالأدرينالين، لا أماكنه التى تبدلت.. يقول عزمى فى إحدى قصائد ديوانه الأحدث «يمشى فى العاصفة»: سأحكى عن الثورة التى سُرقت من ميدان التحرير/ لأن الأشجار لا تكبر فى الصحراء/ وأعمدةُ الكهرباء لا تصدق غناء الطيور/ ولأن رجلًا مهزومًا أيقن أن الأبدية شىء مستحيل/ أخذ يحكى هاربًا فى أحاديث الثورة/ ولماذا يكره الإخوان والسلفيين/ ولأن شيئًا انطفأ فى روحه، لم يعد قادرًا على الطيران».
لا يخدعكم وجه عزمى عبدالوهاب الطيب، الجاد، الصارم، لا تخدعكم انحيازاته الجمالية.. فخلف ذلك الوجه وجه آخر أعرفه جيدًا، وأأتنس به فى ليالى الشعر الخالص، والمحبة الخالصة، ومتعة الجلوس إلى ذلك العجوز الذى ما زالت روحه قادرة على محبة الحياة.. والطيران.