قميص غزة.. لماذا نشرنا كتاب «الدكتور فضل»؟.. وهل يرد «تجار المقاومة»؟
شنت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة يوم السبت الموافق ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨، ثم أعلنت وقف إطلاق النار من جانبها يوم ١٨ يناير ٢٠٠٩، وقبل ثلاثة أيام من وقف إطلاق النار أعلنت جريدة الشرق الأوسط عن انتهاء د. فضل «السيد إمام عبدالعزيز الشريف» من كتابه «قميص غزة!»، كما أعلنتْ عن حصولها على حق نشر الكتاب. وسوف أقوم فى هذا الموضوع، بأجزائه الأربعة الأولى بعرض أهم ما جاء فى هذا الكتاب، الذى يحمل فى طياته كثيرًا من الصدمات والحقائق الموجعة للكثيرين، بينما سيكون الجزء الخامس والأخير خاصًا بوجهة نظرى فيما يخص بعض ما جاء به. وأعتقد أن أهمية عرض الكتاب الآن هو ما تمر به المنطقة منذ هجمات السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وما تلاها من عدوانٍ غاشم على قطاع غزة. ولكى ندرك قيمة هذا العمل، يجب أن نعرف أولًا مَن هو المؤلف، ولماذا كتب كتابه هذا كما ذكر هو فى مقدمته؟ د. فضل هو الاسم الحركى للسيد إمام الشريف الذى يحمل لقبًا جهاديًا هو عبدالقادر بن عبدالعزيز. هو أحد أهم الأسماء فى تاريخ الجماعات الإرهابية التكفيرية التى أطلقت على نفسها مسمى «الحركات الجهادية الإسلامية» فى أكثر من نصف قرنٍ. فهو من وجوه الصف الأول من «المنظرين» لهذا الفكر، وكانت بعض مؤلفاته مراجعًا جهادية تتم الاستعانة بها فى مراكز تدريب مقاتلى القاعدة وغيرها. ويكفى أن نشير إلى عناوين بعض مؤلفاته تلك حتى نعرف عمن نتحدث! فلقد حمل أحد كتبه عنوان «الإرهاب من الإسلام، ومَن أنكر ذلك فقد كفر»، بينما حمل كتابٌ آخر هو الأهم عنوان «العمدة فى إعداد العدة!»، إذن نحن نتحدث عن أحد أعمدة الفكر التكفيرى للحركات والجماعات التى اكتوت بنيران جرائمها دول الشرق الأوسط، وفى القلب منها مصر!
ثم تحول ليصبح أحد رموز ما يسمى «المراجعات الفكرية والشرعية» منذ عام ٢٠٠٧ تقريبًا حين أصدر «وثيقة ترشيد العمل الجهادى!». تشير بعض المراجع إلى أنه كان أول أعضاء المجلس الاستشارى فى تنظيم القاعدة، بينما يُصر هو على أن دوره لم يكن إلا دورًا استشاريًا شرعيًا فى أغلب الأحيان لصداقته قيادات تلك التنظيمات! وكتابه الذى سيكون موضوع هذه المقالات قد كتبه فى المرحلة الثانية من حياته، أى أنه يندرج تحت كتابات المراجعة!
آثرتُ أن أكتفى بعرض فقرات من كتاب د. فضل سيد إمام الشريف دون أن أتدخل بإبداء رأى هنا أو اعتراض هناك حتى يكتمل عرض أفكار الكتاب أولًا، ثم لى- كما لغيرى- أن يبدى رأيه فى كل أو بعض ما ورد به. وقد يكون منطقيًا أن أبدأ ببيان سبب عرض هذا الكتاب فى هذا التوقيت، رغم أن كثيرًا مما جاء به لا يتفق مع الشائع الآن من مشاعر ملتهبة كرست لمسلمات عند البعض، وعلى رأسها أنه لا مكان الآن لأى نقد يوجه إلى «المقاومة»، وأننا ستكون لدينا رفاهية ذلك بعد أن تتوقف المذبحة، وهذا هو السبب تحديدًا فى أن نقرأ هذا الكتاب الآن، لأن هذا السيف قد سُلط على رقابنا كثيرًا قبل العدوان الأخير على غزة. فعدوان عام ٢٠٠٨، الذى كان دافع د. فضل للكتابة لم يكن آخر المشاهد التى قادتها حماس فى قطاع غزة، فلقد رأينا تكرارًا لما حدث قبل الآن بسنوات. وكل التفاصيل قد تمت بصورة كربونية وتحملت مصر العبء الأكبر، كما تعرضت أيضًا للتطاول الأكبر! لكن هذه المرة كانت المقتلة أضخم من أن يستوعبها إنسان طبيعى دون أن يبحث عمن يحمل فى رقبته هذه الدماء، ولنبدأ بنقطة فاصلة حتى نغلق أى باب للمزايدة على إنسانيتنا جميعًا فأقول: إنه لا يوجد شخصان طبيعيان على هذا الكوكب يمكنهما أن يختلفا فى المشاعر الإنسانية، أو أن يكون لأحدهما رأىٌ يبرر به قتل إنسانٍ واحد برىء، فما بالك بكل هذه الدماء الطاهرة لآلاف الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ.
ولعل هذه الدماء تحديدًا تكون هى الباعث الحقيقى لاستعراض ما كتبه فضل وصدمنا به حين نقارن موقف النبى «ص» فى حماية النساء والأطفال بما شاهدناه وسمعناه على الهواء مباشرة من بعض قيادات حماس.. فأحدهم قال صراحة إن الأنفاق هى لحماية المقاتلين، أما أهل القطاع فهم لاجئون تقع مسئولية حمايتهم على قوات الاحتلال! وبعض قادتهم حرض الجماهير عشية كل جمعة من الدوحة وهو آمنٌ تمامًا مع كل أو بعض ذويه، وبعضهم لم يكف عن تصريحات رفع سقف توقعات أهل القطاع قبل العدوان الإسرائيلى، مما أوحى لهم ولنا بأن حكام القطاع قد أعدوا عدتهم لحماية أهل القطاع المستباحة أرضه جوًا وبرًا وبحرًا، ثم انكشف الستار عن تلالٍ من الأكاذيب، وأن كل ما تحدثوا عنه كان يخص مقاتليهم فقط المحصنين فى السراديب والأنفاق، بينما تُركت الأسر الفلسطينية المسالمة فى العراء أهدافًا مكشوفة للقتل، وكان كلما ارتفعت أعداد الضحايا كلما حمل قادة حماس الآخرين مسئوليتها، تمامًا كما ذكر فضل عن عدوان عام ٢٠٠٨م. من أجل هذه الدماء كان اختيار هذا الكتاب الذى جاء بعض فقراته وكأنه يتحدث عن اليوم وليس عن سنواتٍ سبقت، بل إن نكبة غزة اليوم يتعاظم معها إثم هؤلاء الذين أمروا المدنيين الآمنين بالدخول فى معركة هم يعلمون تمامًا عجزهم عن حماية هؤلاء، بل عجزهم عن حماية الأرض ذاتها.
احتوى الكتاب- انطلاقًا من شخصية كاتبه وخبراته السابقة وما لديه من معلومات سياسية حقيقية عما كان يحدث فى غرف عمليات الجماعات التكفيرية- تفسيرات حقيقية لبعض الأحداث التى كان الناس يجهلون خلفياتها وقت حدوثها، مثل تفصيل ما حدث فى حماة السورية، ومثل تتبع الدور الإيرانى مع المنظمات الفلسطينية وغيرها. لذلك فللكتاب أهمية وثائقية رغم أن كاتبه لم يقصد ذلك وإنما كتبه بغرض تقييم المسارات السياسية لتلك التنظيمات من منظور شرعى دينى.
وهذه هى الملاحظة الأولى لى على الكتاب. فالشيخ فضل لم يبرأ أو يتبرأ تمامًا مما كان يعتنقه من أفكار. هذه هى الحقيقة الساطعة من بين فقرات وأسطر الكتاب، ورغم أنه كان أحد رموز ما يسمى بالمراجعات التى تبناها بعض قيادات الجماعات التكفيرية، لكن ما يصل للمرء من القراءة العميقة لهذا العمل أن فكرة د. فضل التى تبناها هى أن تلك الجماعات قد وقعت فى أخطاء شرعية، على رأسها عدم تقدير قوتها والزج بالشعوب فى كوارث بناء على هذه التقديرات الخاطئة. وأن هذه الجماعات لم تضع قدمها على الطريق الصحيح بعد، وأنها كانت تُجرب فى الشعوب فى القرن الماضى.
كلامٌ فى منتهى الخطورة ويستدعى أن نراجع بدقة ما يسمى بكتابات المراجعات. وأنا أرد على د. فضل بأن الخلاف معه ومع جماعاته كلها هو خلاف مبدئى على شرعية وجودها فى الأصل لا على مسلكها من حيث اتباعها أو خروجها على الشرع، فأنا كمواطن مصرى أؤمن بفكرة الحراك التاريخى للأمم وأؤمن بفكرة الأمة الوطنية المصرية، أكفر تمامًا بأى شرعية يحاول أى رجل أو مجموعة رجال أن يمنحوها لأنفسهم بأن تكون لهم «جماعة» تمزج السياسة بالدين! لأن الأساس الذى تقوم عليه الفكرة باطل ويتناقض مع فكرة الدولة الدستورية، فلا دول داخل الدولة.. ولا شرعية لأى منظمات على أرض مصر غير شرعية الدستور المصرى.
حين نفى د. فضل أن تكون فلسطين هى أم القضايا استطرد كثيرًا ووصل إلى القول إن أم القضايا هى غياب الخلافة الإسلامية وغياب الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية. قرأتُ عباراته عدة مرات من فرط دهشتى وذهولى مما كتبه أحد رموز المراجعات، وأقول له إن الإيمان بفكرة وجوب وجود ما يسمى بالخلافة الإسلامية لا يختلف كثيرًا عما انتقده د.فضل ذاته عند الشيعة حين تحدث عن الإمام الغائب الذى ينتظره الشيعة، فإن كانوا هم ينتظرون هذا الإمام، فأنت وكل رجل دين أو عالم أو حتى مسلم من العوام حين تؤمنون بعودة الخلافة تكونون مثلهم تمامًا، ولا يصدر هذا الحديث عن رجل قدم نفسه رمزًا من رموز التوبة والمراجعة، هو فقط أرجأ الفكرة لحين تكون لديه ولدى المؤمنين بالفكرة ذاتها القوة الكافية ليهدموا الأوطان والدول ليقيموا الخلافة المزعومة. الخلافة لم تكن سوى فترة تاريخية وصورة من صور الدول الكبرى وليست جزءًا من الدين ذاته، فكرة عودة الخلافة كانت هى القميص الذى نقعه جميع الجماعات التكفيرية فى دماء المصريين طوال القرن الماضى ومنذ سقوط الإمبراطورية العثمانية. أنا فلان لا أتحرج كمسلم من أن أعلن عدم إيمانى، أو بالأدق، أعلن إنكارى التام لفكرة عودة الخلافة، وقد خصصتُ لذلك أجزاء من كتابىّ «الجلمود والكتاب الأسود» بخلاف أكثر من مقال قمت بنشره فى العامين الماضيين، فلا فلسطين ولا عودة الخلافة أم القضايا لى كمواطن مصرى، أم القضايا لى هى هذه البلاد.. مصر وكل ما يتعلق بها وما يجب علينا فعله لكى ننزلها منزلًا يليق بها حضاريًا. مصر فقط هى أم القضايا لنا كمصريين- مسلمين ومسيحيين- اليوم وغدًا وحتى نلقى الله، ولا يعنى هذا خروجًا عن ديانة أو تنكرًا لعقيدة، إنما يعنى الفهم الصحيح للتاريخ الإنسانى للمسلمين والتفريق بين الديانة والتاريخ السياسى البشرى للمسلمين فى القرون الأولى. كل دماء المصريين المراقة فى القرن العشرين، وكل جرائم الجماعات التكفيرية على الأرض المصرية إنما كانت بسبب وهم وقميص عودة الخلافة! اتفقوا جميعهم على رفع هذا القميص واختلفوا فقط فى الطريق والطريقة، فبعضهم استباح دماء رجال المؤسسات الوطنية فقط من قوات مسلحة وشرطة وقضاء ورجال سياسة ومفكرين، بينما استباح البعض الآخر دماء جميع المصريين، هذه هى الحقيقة البائسة.
استكمالًا لإيمانه بوهم عودة الخلافة، خصص د. فضل بعض فقرات كتابه للدفاع عن الاستعمار العثمانى للدول العربية، واتهم تلك الدول والشعوب بأنها- بمقاومتها هذا الاستعمار العثمانى- كانت السبب فى ضياع فلسطين. فكرة بائسة بالية غرسها فى عقولنا عبر عقود القرن الماضى كل تلك التنظيمات الإرهابية، وساندها فى ذلك كثيرٌ من علماء الدين، الذين خدعوا الناس بحديث مكذوب عن بطولات وصفحات ناصعة للخلافة الإسلامية العثمانية فى الدفاع عن الإسلام، ولو أنهم كلفوا أنفسهم بجهد البحث العلمى وقراءة تاريخ بلادهم المصرية حق قراءته لخجلوا من هذا الحديث. الاستعباد والاستعمار واستغلال الشعب وإذلاله ونهبه وسرقة مقدراته.. كل ذلك يتساوى فى الحالتين، حالة إن كان المستعمِر مسلمًا أو غير مسلم. أحيانًا أتعجب لدرجة أتخيل أن جنونًا قد يصيب عقلى وأنا أقرأ لكثير من أسماء علماء وأساتذة جامعات مصريين وهم يدافعون باستماتة عن مظالم ومساخر الاحتلال العثمانى، لا أصدق أن هذا أو ذاك بكل هذه الألقاب الأكاديمية لم يكلف نفسه عناء قراءة التاريخ بشكل موضوعى، أو أنه قرأه ثم ألغى عقله العلمى وصار مثله مثل من لم يقرأ سطرًا فى حياته. إن أعداد المصريين الذين قُتلوا ظلمًا على أيدى ولاة وحكام مصر فى العصر العثمانى تصيب المرء بالغثيان، حين يقرأ مثل عبارات د. فضل المدافعة عن أكذوبة الخلافة العثمانية.. لا تقرأوا للمستشرقين، لكن فقط اقرأوا كتابات الجبرتى.
أما الزعم بأن مقاومة الشعوب الاستعمار العثمانى هى سبب ضياع فلسطين فلا يقوى على الصمود ومضة واحدة أمام حقائق التاريخ.. فلسطين- ومعها سيناء- أصبحت هدفًا للأسطورة المُعاد خلقها فى القرن السادس عشر منذ ذلك التاريخ.. وبدأ ضياعها فعليًا قبل سقوط الاحتلال العثمانى بعقود طويلة.. أكثر من اثنين بالمائة من أرض فلسطين تم بيعها بشكل طبيعى فى القرن التاسع عشر، وكان الملياردير اليهودى الصهيونى روتشيلد هو الممول.. أقيمت مستوطنات بشكل طبيعى بعد بيع هذه المساحات وعمل بها يهود وعرب.. الوثائق موجودة لمن يريد أن يعرف.. وكان هناك يهود فلسطينيون يعيشون منذ قرون، بلغ عددهم قبل بدء النشاط الاستيطانى عشرة آلاف.. وعد بلفور كان من مشاهد النهاية لا البداية كما يعتقد كثيرون. ما يسمى بالخلافة العثمانية- وأنا أفضل تسميتها بالإمبراطورية العثمانية وفى مصر هى الاحتلال العثمانى- كانت قد بلغت من الضعف مرحلة لم تقوَ معها على حماية نفسها حتى تقوى على حماية فلسطين. لو لم تتم الخطوة الأولى بالبيع لتغير وجه تاريخ فلسطين. البيع أوجد أعدادًا كبيرة من الأسر دفعت أبناءها وبناتها للالتحاق بالعصابات التى قامت بالخطوات التالية، حرب ٤٨ كانت تحصيل حاصل لواقع موجود على الأرض.. حتى لو انتصرت القوات العربية لم تكن لتستطيع طرد اليهود لأنهم كانوا بالفعل قد أصبحوا سكانًا.. لكن ربما كانت تستطيع الحفاظ على مناطق للعرب أو كانت حافظت على وجود دولة للعرب.. اقرأوا التاريخ جيدًا أثابكم الله.
لا أتفق فى منهج د. فضل فى الكتاب بإخضاع السياسة للدين. فهذه الفكرة قُتلت بحثًا منذ قيام الخلافة الإسلامية الأولى، وكانت سببًا للاقتتال وإراقة دماء مئات الآلاف من المسلمين بسيوف المسلمين- وهذه أرقام حقيقية وليست مبالغة منى- لأن الدين هو فكرة أو عقيدة دينية فى الصدور، وأخلاقية ينبغى أن تعلن عن نفسها فى السلوك الإنسانى بصفة عامة سواء الأفراد أو الجماعات.. لكن أن تحصر معنى آية كريمة أو حديث منسوب للنبى «ص» بنسبة ما فى قانون سياسى أو موقف سياسى معين، فهذا هو السقوط فى الهاوية وبداية امتطاء الدين لتحقيق أغراض سياسية. لكننى آثرت نقل ما كتبه مثل حرص النبى «ص» على أرواح النساء والأطفال فى غزوة الأحزاب، لأن هذه أخلاقيات الإسلام لا تتغير بتغير ظروف حرب.. هذه هى المسلمات الإسلامية الحقيقية، ومثل صيانة حياة ودماء السفراء وغيرها.. هذه أخلاقيات إنسانية سبق وجودها وجود الديانات الإبراهيمية ذاتها، ولدينا وثائق مصرية قديمة عمرها آلاف السنوات تؤكد ذلك. لقد نقلتُ فقرات كاملة للرد على من يشيعون بين الناس أن حماس ومن سار على سيرها هى التطبيق الحقيقى للإسلام وأخلاقيات النبوة.. لقد أردتُ أن أثبت لهم على لسان أحد كبار منظريهم أنهم ليسوا كذلك. السقوط فى هذا الفخ لا يقود إلا إلى المذابح، لأن كل طرف قد يكون لديه تفسير دينى لا يتفق مع الآخر فى موقف سياسى أو مجتمعى، وكل منهما لديه عالمه وشيخه الذى يقنعه أن رأيه هو الدين ذاته.. فحين تكون لطرف قوة السلاح ويعتقد أنه يمثل الرأى الإلهى فسيكون قتل الآخر هو عقابٌ إلهى. هذه ليست ادعاءات باطلة، لكنها ما وقع بالفعل فى تاريخ المسلمين، ومن قبلهم فى تاريخ المسيحيين حين انقسمت المسيحية إلى مذاهب، واتهم أتباع كل مذهب الآخرين بالهرطقة. أن نتفق فيما وصل إليه د.فضل سياسيًا لا يعنى أننا نتفق معه فى المنهج، إن جزءًا غير قليل من أزمة المسلمين المعاصرين أنه قد قُدمت إليهم صورة غير حقيقية عن تاريخ المسلمين القدامى.. أسوأ الخطايا أن تُعلم أجيالًا تاريخًا بشريًا على أنه تاريخٌ مقدس.
ولاية الفقيه التى تحدث عنها فى معرض حديثه عن إيران لها ما يناظرها أو كان هناك من يريد خلق ما يناظرها فى مصر، فكرة وجود رجل دين فوق أعلى سلطة سياسية فى البلاد يسيطر على مؤسسة الحكم ويأتمر رئيس الدولة بأمره، ولا يتخذ قراراته بشكل مؤسسى دستورى، وإنما بشكل إملائى منه أو من هيئة لها سمتٌ دينى ويرأسها رجل دين.. كل ذلك حدث بالفعل فى مصر فى عام حكم جماعة الإخوان، لقد حاولوا ذلك مع جمال عبدالناصر ففشلوا ودفعوا الثمن..كانت محاولة تنم عن غباء فكرى كبير فى عدم فهم تركيبة قيادة عسكرية وطنية مهما تكن درجة خبرات هذه القيادة من الناحية السياسية.. ثم أخيرًا نفذوا هذه الفكرة- وجود رجل ذى صفة دينية فوق سلطة المؤسسات وسلطة رئيس الدولة- لمدة عامٍ كامل وشاهد المصريون ذلك وسجلته وثائق التاريخ حين كان المرشد فوق الرئيس، لذلك كان عجيبًا ألا يرى هذا التناقض د. فضل وهو يغمز ويلمز بفكرة ولاية الفقيه الشيعية، ولا يرى أن ما يقوله فى كتابه هو نفس الشىء.. أن يقيّم عالم دين سلوك دول أو حكام ويرى أن من حقه توجيههم.
إننى أعتقد أن المراجعة الحقيقية أو التوبة الحقيقية لأسطون عقلى من أساطين الفكر التكفيرى هى أن يعلن إيمانه بفكرة الدولة الوطنية الدستورية، وأن مؤسسات الدولة السياسية أو التكنوقراطية هى وحدها لها الحق الدستورى والقانونى فى أن يناقشها الرئيس ويستشيرها ويطلب منها المشاركة فى اتخاذ قرارات تصب فى صالح الدولة وشعبها.. ديانة الدولة هى فكرة رمزية تعبر عن نفسها فى الدستور بمواد معينة، وفى الواقع بوجود مؤسسات دينية محلية لا تخرج على الدولة، وبحرية ممارسة الجميع عقائده وشعائره، وباحترام عقائد وشعائر المختلفين معهم فى الديانة.. هذا هو التطور الحضارى وهو يتسق تمامًا مع شخصية مصر التاريخية، وهذا ما كنتُ أتمنى قراءته فى كتاب د. فضل، لكننى للأسف لم أقرأه.
حين أفاض فيما قدمته مصر من مساعدات لأهل غزة عام ٢٠٠٨م، وقطعًا تتضاعف أهمية ما قاله بعد أن قادت مصر وفرضت على العالم تقديم المساعدات الإنسانية لأهل القطاع بعد هجمات السابع من أكتوبر، حين فعل ذلك نظر للموضوع من زاوية ضيقة جدًا، وهى ما رأى أنه الحكم الشرعى ووصل إلى عدم شرعية إرسال صدقات المصريين وزكاتهم إلى مكانٍ بعيدٍ.. وسيتكرر هذا المشهد فى عيد الأضحى المقبل.. لن أجادل فى أحكام دينية لنفس السبب، وهو أننا أمام قضية سياسية. أتفق معه فقط فى أن مصر- الدولة والشعب- يجب أن تكون لهم هم- دون أى منظمات إغاثة إخوانية الهوى أو التاريخ- صدارة المشهد والإشراف عليه من أول جمع التبرعات حتى إيصالها لأهل القطاع إن أمكن ذلك وليس لحماس، وأيضًا وكما فعل الرئيس أن تعلن مصر حجم ما قدمته ليس منًا أو تباهيًا، وإنما حتى يعلم أهل القطاع هذا كمعلومة، وحتى لا يتم ابتزازهم داخل القطاع وبيع هذه المعونات لهم.
أما ما أختلف معه فى هذه النقطة، وكما ذكرت أنه نظر للمسألة من زاوية ضيقة محدودة.. لأن المصريين- هذا العام مثلًا- لم يقدموا ما قدموه لأهل القطاع من باب الصدقات والإحسان، وإنما من باب الشهامة والواجب و«الجدعنة» المصرية، رغم ضيق الحال بكثيرٍ منهم، ورغم ما تواجهه مصر من مصاعب اقتصادية.. وهذا هو السمت أو الشخصية الحقيقية لمصر، التى يجهلها للأسف د. فضل وكل أو معظم من اعتنق أفكاره.. أزمتهم أنهم لا يعرفون شخصية بلادهم الحقيقية. تعامل المصريون بشهامة وشرف وترفع كبير مع نكبة غزة.. فرقوا بين ما يحمله كثيرون فى صدورهم مما اقترفته «حماس» من جرائم تجاه مصر وبين أهالى القطاع من أسر لها الحق فى الحياة. لو عامل المصريون أهل القطاع بما حماس أهلٌ له لاختلف موقف المصريين كثيرًا، لكنهم عاملوهم انطلاقًا من ضمائرهم وأخلاقيات إرثهم الحضارى وأخلاقيات دياناتهم، فربما يستفيق أهل القطاع بعد أن يرفع الله كربهم ويراجعوا ما حدث معهم مما نجهله نحن ويجهله غيرنا، وربما تكون لهم كلمة أخرى بعد هذه النكبة حين يراجعون المواقف على حقيقتها ويميزون بين الخبيث والطيب ويحاولون أن يسألوا أنفسهم عمن ألقى بهم إلى هذه المقتلة.
موقف مصر هو موقف إنسانى فى المقام الأول يتسق مع شرف مصر وتاريخها.. لكننى أتفق مع د. فضل فى أن تكون الدولة المصرية، ممثلة فى مؤسساتها الرسمية، هى فقط المسئولة عن جميع خطوات جمع وتوصيل مساعدات المصريين التى اقتطعوها من أقوات يومهم.. وأن تُبعد أى هيئة إغاثة خاصة أو نقابية مشكوك فى سيرتها وأهدافها، كما رأينا سابقًا حين كانت إحدى أكبر نقابات مصر المهنية ممثلة فى هيئة إغاثتها تجمع أموال المصريين، ثم تلقى بها إلى سمسار المقاتلين الذى كان يتولى إرسالهم إلى معسكرات أفغانستان، ثم رأيناه بعدها بسنوات مرشحًا فى انتخابات مصر الرئاسية.
أكتفى بهذا القدر من التعليق على الكتاب، رغم أن كثيرًا مما جاء به يستحق التوقف عنده.