شيخ المداحين.. احتفاء جماهيرى بإنتاج وعرض «الوثائقية» فيلم أحمد برين
يُقال إن الطفل أحمد برين- الذى أصبح فيما بعد شيخًا ونجمًا من نجوم الإنشاد الشعبى- رأى وهو صبى صغير يسير فى الطريق طائرة تحلق فى السماء، واهتز قلبه من هذا المشهد.. حينها حلم بأن يكون أحد ركابها، وظل يتذكر تلك الأمنية، حتى استقل واحدة مثلها، فى أولى رحلاته الخارجية لإحياء حفل فى فرنسا.
ولأن الأحلام لا تسقط بالتقادم طالما هناك إرادة لتحقيقها، حققت قناة «الوثائقية»، التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، حلمًا، طالما حلم به عشاق الطرب والإنشاد الشعبى، بأن تخلّد أسطورة رجل عظيم، مثل أحمد برين فى فيلم، يشاهده الناس من جميع الأنحاء، ويتعرفون من خلاله على واحد من الذين أتيحت لهم، ملَكة من ملكات الإلهام الربانى، فأوتى الموهبة الفريدة، والصوت الشجى، والذكاء الفطرى، والذاكرة الحادة، وغير ذلك من الملكات، التى جعلته يأسر عقول وقلوب وآذان مستمعيه، رغم ما ابتُلى به من فقد البصر.
الفيلم الذى يُعرض قريبًا على شاشة «الوثائقية»، التابعة لقطاع الإنتاج الوثائقى بـ«المتحدة»، الذى يترأسه الإعلامى شريف سعيد، استلزم إعداده جهدًا مضنيًا من صناعه، من أجل الإحاطة والإلمام بالتراث الضخم لهذا الرجل الفريد فى عصره، خاصة أنه لم يؤثر فقط فى الجمهور الشعبى المصرى، بل ترك بصمة قوية فى المستمعين الأجانب، الذين تحلقوا حول تجربته، خلال حفلاته المتعددة فى أوروبا.
ينطلق الفيلم، الذى أجرى البحث والإعداد والكتابة له، الكاتب الصحفى محمد المتيم، من التكوين النفسى والاجتماعى لـ«برين»، وطبيعة نشأته التى أشعلت موهبته فى هذا المجال الصعب، وكيف التقط من هنا وهناك، ليولد داخل قلبه وعقله، ذلك المارد السحرى الذى يسمى الفن، فصار يغنى وينشد، ويحقق انطلاقات طربية تخطف أذهان المستمعين البسطاء الذين أجلستهم حنجرة «برين» الفطرية، يستمعون وكأن على رءوسهم الطير.
وسافر صناع الفيلم إلى أقاصى صعيد مصر، مسقط رأس «برين»، حيث البيئة البسيطة التى تشكل وعيه فيها، وتلمسوا هذه الروائح الفطرية التى اشتمها الراحل، وذلك الصفاء والبساطة اللذين أثرا فى شخصيته، واللذين أكسباه أيضًا وعيًا وحضورًا وفطنة غير محدودة، وقدرة على فهم طبيعة الناس ورغبات المستمعين.
وحسب صناعه، تتبع الفيلم مراحل صعود وصناعة نجومية الشيخ برين فى صعيد مصر، ثم فى باقى أنحاء المحروسة، وتتبع كذلك رحلة نجوميته فى الخارج، مبينًا كيف استطاع اجتذاب الجمهور الأجنبى الذى لا يعرف العربية، وإطرابه وإشعاره بالسرور والروحانية، للدرجة التى جعلته يحظى بشعبية كبيرة فى بلد مثل فرنسا على سبيل المثال، ويسعى خلفه المنتجون ومنسقو الحفلات فى أوروبا.
الفيلم يقدم ذاكرة حية كذلك لتاريخ الإنشاد الشعبى، عبر تتبع رحلة الشيخ برين، وما فعله من تطوير لبنية الأنشودة والموال، وكذلك تطوير القصيدة العربية الصرفة، وتقديمها إلى جمهور الإنشاد الشعبى البسيط، ما لا يخل بجزالتها أو يعقد فهمها على أذهان المستمعين، وهى كلها أدوات امتلكها الشيخ الراحل، وسخرها بفضل موهبته الجبارة وذكائه الفنى الواسع.
كل ذلك يأتى فى إطار الهدف الأسمى الذى تسعى إليه الشركة المتحدة، وقطاع الإنتاج الوثائقى التابع لها، فى إعادة الروح إلى القوى الناعمة، وإعادة تغذية الروح المصرية بالفن الأصيل، مرسخة بذلك طبيعة الهوية المصرية فى عقول المشاهدين، وهو التوجه الذى ظهر فى جميع إنتاجات «المتحدة» وقناة «الوثائقية».
عن ذلك التوجه، يتحدث الإعلامى شريف سعيد، رئيس قطاع الإنتاج الوثائقى، لـ«الدستور»، قائلًا إن جميع الإنتاجات الأصلية للقطاع يسير على خط ثابت يتمحور حول ترسيخ الهوية الوطنية لدى جموع المصريين، عبر سلسلة أعمال توثيقية فى جميع المجالات.
وضرب «سعيد» مثالًا على ذلك، بإنتاج القطاع، فيلمًا عن إذاعة القرآن الكريم فى الإذاعة المصرية، التى تعد إحدى أدوات القوى الناعمة، والتى ألهمت وجدان الشعب المصرى على مدار عقود.
وتابع: «القطاع أنتج أيضًا فى هذا السياق، فيلم (الدراويش) عن نادى الإسماعيلى، الذى يعد مكونًا من مكونات تاريخ الكرة المصرية، وكذلك فيلم (برين) الذى يستعيد روح الفلكلور والغناء الشعبى المصرى، وغير ذلك من إنتاجات القطاع التى تسير على نفس الخط».
وأكمل أن تلك الأعمال لها دور مهم للغاية فى مكافحة الفكر المتطرف والإرهابى، بشكل غير مباشر، عبر تدعيم الهوية القومية فى عقول وقلوب الشعب، قائلًا: «كل عمل يدعم مصريتنا يعتبر أداة لمكافحة الفكر المتشدد».
فى السياق نفسه، يتحدث الكاتب الصحفى محمد المتيم عن كواليس رحلة البحث والإعداد للفيلم، قائلًا: «بدأ تعلقى الشخصى بأحمد برين منذ سنين بعيدة، لكن وعيى بالقيمة الفنية والحضارية لتجربته، تبلورت فى السنوات الأخيرة، وعند عرض فكرة الفيلم على إدارة (الوثائقية)، قبل عدة شهور، تلقته بالقبول والدعم».
وأكمل: «وفرت (الوثائقية) كل الدعم الفنى واللوجستى اللازم لإنتاج فيلم يليق بواحد من صناع المزاج المصرى، وفنانيه العظام»، مواصلًا: «اجتهدت فى مرحلة الإعداد، فى انتقاء ضيوف لهم ارتباط خاص وفهم عميق لتجربة الشيخ أحمد برين، وعمدت إلى توزيعهم جغرافيًا بين صعيد مصر وشمالها، وبين أجيال أكبر عمرًا حضرت حفلات برين والتقته فى حياته، وأجيال أصغر سنًا تأثرت به بعد رحيله وألهمها فى أعمالها».
وأردف «إن أعمال التصوير جرت فى عدة مواقع تراثية وأثرية بالقاهرة، تتفق وروح الفيلم، وتم التصوير، أيضًا، مع أسرة الشيخ برين ومريديه فى قريتى (الدير والحلة) بمركز إسنا، حيث مهد التجربة».
وقال: «لا يشك متابع للتراث السماعى المصرى، الشعبى تحديدًا، فى قيمة الشيخ أحمد برين كرائد مؤسس فى هذا الحقل، حيث تنبع قيمة برين ليس فقط من جودة وأصالة ما قدمه على مستويات الكلمة والموسيقى والصوت، لكن بالقدر نفسه من صعوبة التجربة وضراوتها»، موضحًا أن اليتم وضيق الظروف وفقدان البصر، كل هذه عوامل كانت تحتاج إرادة فولاذية لتجاوزها، حتى ينجح فى تقديم ما قدمه، ليس فقط فى بيئته الصعيدية المغلقة، ولا حتى فى الإقليم المصرى، بل على أكبر مسارح باريس ولندن، وغيرهما من عواصم أوروبا.
واختتم بقوله: «تبرز قيمة أحمد برين، أيضًا، فى قدرته على تربية تلاميذ على يديه، سواء داخل بطانته أو جواره، وبكامل التسامح الكامن فى روح الفنان الفطرى، يفتح لهم الباب ليؤسسوا مجدهم الشخصى المفارق لتجربة الشيخ المُعلِّم».