قميص غزة (2)| كتاب الحقائق الصادمة.. الذين أجرموا فى حق فلسطين باسم المقاومة
شنت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة يوم السبت الموافق ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨، ثم أعلنت وقف إطلاق النار من جانبها يوم ١٨ يناير ٢٠٠٩، وقبل ثلاثة أيام من وقف إطلاق النار أعلنت جريدة الشرق الأوسط عن انتهاء د. فضل «السيد إمام عبدالعزيز الشريف» من كتابه «قميص غزة!»، كما أعلنتْ عن حصولها على حق نشر الكتاب. وسوف أقوم فى هذا الموضوع، بأجزائه الأربعة الأولى بعرض أهم ما جاء فى هذا الكتاب، الذى يحمل فى طياته كثيرًا من الصدمات والحقائق الموجعة للكثيرين، بينما سيكون الجزء الخامس والأخير خاصًا بوجهة نظرى فيما يخص بعض ما جاء به. وأعتقد أن أهمية عرض الكتاب الآن هو ما تمر به المنطقة منذ هجمات السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وما تلاها من عدوانٍ غاشم على قطاع غزة. ولكى ندرك قيمة هذا العمل، يجب أن نعرف أولًا مَن هو المؤلف، ولماذا كتب كتابه هذا كما ذكر هو فى مقدمته؟ د. فضل هو الاسم الحركى للسيد إمام الشريف الذى يحمل لقبًا جهاديًا هو عبدالقادر بن عبدالعزيز. هو أحد أهم الأسماء فى تاريخ الجماعات الإرهابية التكفيرية التى أطلقت على نفسها مسمى «الحركات الجهادية الإسلامية» فى أكثر من نصف قرنٍ. فهو من وجوه الصف الأول من «المنظرين» لهذا الفكر، وكانت بعض مؤلفاته مراجعًا جهادية تتم الاستعانة بها فى مراكز تدريب مقاتلى القاعدة وغيرها. ويكفى أن نشير إلى عناوين بعض مؤلفاته تلك حتى نعرف عمن نتحدث! فلقد حمل أحد كتبه عنوان «الإرهاب من الإسلام، ومَن أنكر ذلك فقد كفر»، بينما حمل كتابٌ آخر هو الأهم عنوان «العمدة فى إعداد العدة!»، إذن نحن نتحدث عن أحد أعمدة الفكر التكفيرى للحركات والجماعات التى اكتوت بنيران جرائمها دول الشرق الأوسط، وفى القلب منها مصر!
ثم تحول ليصبح أحد رموز ما يسمى «المراجعات الفكرية والشرعية» منذ عام ٢٠٠٧ تقريبًا حين أصدر «وثيقة ترشيد العمل الجهادى!». تشير بعض المراجع إلى أنه كان أول أعضاء المجلس الاستشارى فى تنظيم القاعدة، بينما يُصر هو على أن دوره لم يكن إلا دورًا استشاريًا شرعيًا فى أغلب الأحيان لصداقته قيادات تلك التنظيمات! وكتابه الذى سيكون موضوع هذه المقالات قد كتبه فى المرحلة الثانية من حياته، أى أنه يندرج تحت كتابات المراجعة!
«حماس» فرضت المعركة على الأهالى.. وما فعلته ليس له علاقة بالدين الإسلامى
فى هذه الفقرات يتهم مؤلف الكتاب زعماء حركة حماس وحزب الله بأنهم ليسوا أمناء على شعوبهم ويجب أن تُعقد لهم محاكمات شرعية تحاسبهم على عبثهم ومغامراتهم واستهتارهم بشعوبهم! يضع «فضل» ما قامت به حماس عام ٢٠٠٨ بصفتها حاكمة قطاع غزة فى ميزان الشرع الإسلامى، كما يعرض لواحدة من أخطر الاتهامات التى يتم توجيهها للدول الموقعة اتفاقيات سلام مع إسرائيل من نفس المنظور الدينى.
فتحت عنوان «التصرف مع العدو بحسب القدرة لا الواجب» أفاض المؤلف فى توضيح رؤيته لدور حماس فى العدوان الإسرائيلى على القطاع فى ذلك العام- وهو الدور الذى يمكن مقارنته أيضًا بما قامت به يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ - فيقول: «مع بداية مأساة غزة الحالية طالب قادة حماس- حكام غزة- أهالى غزة بالصبر والثأر، وأنهم لن يستسلموا ولو تمت إبادة غزة كلها. وهذا الكلام ليست له أى صلة بدين الإسلام الذى سيحاسبنا ربنا على أساسه. فلا يجوز إجبار الناس على ما لا طاقة لهم به. ثم تحميل الآخرين تبعات ذلك، وتوزيع الاتهامات بأن هذا خان القضية وهذا باع القضية».
ثم يدلل د. فضل على رؤيته هذه بمواقف من سيرة النبى «صلى الله عليه وسلم»، وعرض لحال المسلمين من الجيل الأول للصحابة فيقول نصًا: «وقادة حماس الآن يأمرون أهل غزة بما لم يأمر به النبى، عليه الصلاة والسلام، أصحابه وهم خير أمة الإسلام. ففى حياة النبى (ص) وجدت عدة مجتمعات إسلامية فى أماكن وظروف مختلفة، وعمل كل منها باختيار شرعى بحسب ظروفه، من دون نكير من النبى على أحد. ومنهم مسلمون متمكنون لهم منعة فى دولة مسلمة مجاهدون وهم النبى (ص) وأصحابه بالمدينة المنورة. ومسلمون مستضعفون مضطهدون تحت سلطة كافرة محاربة، وهم عاجزون عن الهجرة والجهاد وهم من بقى فى مكة بعد الهجرة، ولم يأمرهم النبى (ص) بالجهاد رغم تشريعه، وعذرهم الله. ومسلمون مستضعفون غير مضطهدين وهم تحت سلطة كافرة مسالمة لهم، وهم المهاجرون بالحبشة وهؤلاء لم يؤمروا أيضًا بالجهاد رغم تشريعه».
ثم يذكر موقف عمر بن الخطاب حين خرج النبى «ص» قاصدًا العمرة ونزلوا بالحديبية وأراد النبى إرساله إلى مكة ليبلغ أشرافها ما جاء له، فخاف عمر الذهاب إلى مكة قائلًا للنبى إنى أخاف يا رسول الله قريشًا على نفسى وليس بمكة أحد من بنى عدى يمنعنى، ولكنى أدلك على رجل أعزّ بها من عثمان بن عفان. كما يستفيض فى ذكر موقف خالد بن الوليد فى غزوة مؤتة وانسحابه حتى لا يعرض جيش المسلمين للهلاك لعدم التكافؤ، وأثنى عليه النبى «ص».
ويخلص د. فضل إلى نتيجة.. «وقد كان ما سبق كله من الخيارات المشروعة للتصرف مع الأعداء بحسب القدرة، واختيار ما هو فوق الطاقة قد يعنى الهلاك، ولهذا لم يأمر النبى «ص» من بقى بمكة من المستضعفين بالجهاد، إذ كان ذلك يعنى هلاكهم. ولهذا أيضًا انسحب خالد بن الوليد. وحاصل ما سبق هو أن الجهاد أو مقاومة العدو ليس من المقدسات التى لا يجوز التخلى عنها، وإنما هو أحد الخيارات مع العدو بحسب مصلحة المسلمين التى يقدرها أهل العلم بالدين والواقع لا أهل الانتهازية السياسية، الذين يتخذون المقاومة وسيلة لكسب شرعية أو شعبية ولو بالتضحية بالشعب».
ثم يستكمل حديثه عن حماس قائلًا: «ومما سبق نعلم أن ما تفعله حماس فى غزة اليوم هو عبث ليس له صلة بدين الإسلام، فهم قد فرضوا على أهل غزة معركة لم يفرضها النبى (ص) على من بقى بمكة من المسلمين بعد هجرته، ومعركة انسحب منها خالد بن الوليد. فرضت حماس المعركة على أهل غزة وهى عاجزة عن حمايتهم وتأمينهم، وليس لديها أى دفاعات جوية، وغزة ليست أرضًا حصينة بل هى سهل منبسط مكشوف بلا جبال ولا غابات. فلا يجوز الخلط بين عبث حماس ودين الإسلام، فما تفعله حماس مصادم للدين الآمر بالحرص على الرعية. ولكن حماس أعلنت أنه لا مانع لديها من إبادة غزة. إن الله سبحانه وتعالى سوف يسأل قادة حماس عن كل قطرة دم سالت فى غزة وعن كل خراب وقع. ما يجرى الآن فى غزة ليس هو الهجوم المباغت للعدو على البلدة بغير إرادة أهلها، وإنما هو استفزاز العدو من جانب حماس ليهجم على البلدة عن عمد لأغراض سياسية تريدها حماس على حساب الشعب. ولا يجوز للفلسطينيين طاعة قادة حماس فى عبثهم، فإن فعلوا ذلك فسقوا، لأنهم بذلك إنما يستخفون عقولهم ويعرضونهم للهلاك بلا جدوى».
يجب محاكمة قادة «حماس» و«حزب الله» على مغامراتهم واستهتارهم بأرواح شعوبهم
يرى فضل- بناءً على ما قامت به حماس وقام به حزب الله، وبناء على تصريحات قادة كل من الحركة والحزب- أنهم ليسوا أمناء على شعوبهم.. «أعلن زعيم حماس خالد مشعل انتهاء الهدنة مع إسرائيل وعدم تجديدها من الفنادق الفاخرة والملاذ الآمن فى دمشق، وهرب قادة حماس الداخل إلى سراديب غزة ومخابئها، وتركوا شعب غزة يدفع الثمن، قتلى وجرحى بالآلاف، أى أنهم تترسوا بشعبهم وجعلوا شعبهم دروعًا بشرية تحميهم. هؤلاء ليسوا أمناء على شعوبهم. صنع قادة حماس الكارثة ثم استغلوها فرفعوا قميص غزة- الذى نقعوه فى الدماء بأيديهم- لإثارة الغوغاء وللشكوى والصراخ، ولتخوين الآخرين وتحميلهم المسئولية. هذا كله تلبيس للأمور وخلط للحق بالباطل. والصحيح أن مسئولية مذبحة غزة بدمائها وأشلائها يتحملها قادة حماس وحدهم. هذا هو شرع الله، فهم كانوا حكام غزة، وهم وحدهم قرروا إنهاء التهدئة بما يعنى بدء الحرب مع إسرائيل».
«هؤلاء ليسوا أمناء على شعوبهم. فى عام ٢٠٠٦ اختبأ حسن نصرالله، زعيم حزب الله، فى لبنان وتترس بشعبه حتى قُتل منهم أكثر من ألف إنسان وآلاف الجرحى ومليون مشرد وخراب واسع، وفى آخر عام ٢٠٠٨ كررها قادة حماس فى غزة. أمثال هؤلاء يجب أن تُعقد لهم محاكم شرعية تحاسبهم على عبثهم ومغامراتهم واستهتارهم بشعوبهم».
من يتخذ قرار الحرب عليه أن يتحمل التبعات وحده
يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وبعد سويعات قليلة من هجوم حماس استمعتُ إلى مداخلات من قيادات حمساوية، ومن قيادة دينية فلسطينية، يحرضون فيها المصريين صراحة على الزحف نحو الحدود والتمرد على الدولة المصرية، والقيام بعمليات تخريبية على الحدود المصرية. وقد قمتُ بالرد على هذا التطاول بنشر مقال فى نفس اليوم بجريدة «الدستور» بعنوان «ردًا على حديث نواف التكرورى رئيس هيئة علماء فلسطين!» سنوات طويلة يحدث نفس السيناريو.. هناك من يتخذ قرارًا فى القطاع ثم بعد أن يتم إشعال النيران، يقوم من أشعلوا النيران بتوجيه الخطاب لشعوب دول أخرى وتحريضها على حكوماتها وأوطانها، ثم تنساق خلفهم الكتل الجماهيرية دون أن تتوقف تلك الكتل لتفكر بمنطق العقل أو الدين أو القانون أو الوطن.
يتعرض د. فضل فى كتابه لهذه النقطة المهمة ويضعها تحت عنوان «كل إنسان مسئول عن تبعات قراره».. «إذا اختار إنسان أمرًا ما ثم حدث له ضرر بسبب اختياره، فلا تُقبل منه الشكوى من ذلك، ولا يجوز أن يتحمل غيره ضرره، خاصة إذا نصحه الآخرون بأن الرشد بخلاف ما اختار وأن اختياره قد يضر» ويستفيض فى التدليل الدينى على رأيه هذا بوقائع حدثت وحكم فيها النبى «ص» بين متشاجرين، وواقعة حياد ابن عمر فى النزاع بين عبدالله بن الزبير وعبدالملك بن مروان على الخلافة. وبعد مقتل ابن الزبير وقف ابن عمر عليه وقال: «السلام عليك أبا خبيب، أما والله كنتُ أنهاك عن هذا».
يقول فضل: «وبهذا تعلم أن ما يفعله قادة حماس مع أهل غزة وغيرهم لا يجوز شرعًا، هم أصحاب القرار وعليهم تحمل تبعاته وحدهم، ولا يُلام أحد على عدم مساعدته لهم. أما أن يتخذ قادة حماس قرار الحرب ويريدون أن يحارب الآخرون نيابة عنهم ويدفعون ثمن قرار حماس فهذا باطل ونوع من الاستغفال للآخرين وإرهابهم بقميص غزة. قادة حماس هم أصحاب القرار وعليهم تحمل كل تبعاته، وفى رقابهم كل قطرة دم تسيل فى غزة وكل خراب، كما يتحمل ياسر عرفات كل مآسى فلسطين منذ ١٩٧٨ بسبب رفضه هدية السادات».
الشعب المصرى يدفع من قوت يومه ومن دمائه لأجل فلسطين منذ عام ١٩٤٨.. ولا مجال للمزايدات
ينتقل بنا د. فضل إلى نقطة أخرى عانت مصر منها كثيرًا منذ توقيع اتفاقية السلام، وتم استخدامها ضد مصر بشكل ظالم باطل.. يفاجئ فضل كل الذين خونوا مصر أو أى دولة توقع اتفاقيات سلام مع العدو الإسرائيلى بموقف يرى أنه يتسق مع الدين الإسلامى. وضع فضل لذلك عنوانًا هو «الوفاء بالعهد مقدم على نصرة الصديق» فيقول: «لو أن رجالًا أو دولة عاهدوا عدوًا على المسالمة وعدم الحرب فقد وجب الوفاء بهذا العهد. ولا يختلف أهل العلم بالدين على أن الوفاء بالعهود واجب مع المسلم والكافر. فإذا حارب هذا العدو قومًا آخرين، فلا تجب نصرتهم على من عاهدوا العدو على عدم الحرب، حتى لو كان هؤلاء القوم الذين حاربهم العدو موافقين فى الدين لمن عاهدوا هذا العدو سابقًا وكان هذا العدو مخالفًا فى الدين لما عاهده. هذا حكم الله تعالى فى سورة الأنفال آية ٧٢، وبهذا أمر النبى (ص) حذيفة بن اليمان فى غزوة بدر كما قال حذيفة: ما منعنى أن أشهد بدرًا إلا أنى خرجت أنا وأبى حسيل فأخذنا كفارُ قريش قالوا إنكم تريدون محمدًا؟ فقلنا ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر فقال انصرفا.. نفى لهم عهدهم ونستعين الله عليهم».
وتحت نفس العنوان استطرد فضل: «فلا تصدقن من يقول إن إسرائيل دولة غاصبة لفلسطين ولا تجوز مصالحتها أو مسالمتها، فهذا خطأ لأن نصوص الكتاب والسنة المبينة لهذه الأحكام لم تفرق بين العدو من الخارج أو من الداخل. وقد ظل نصارى أوروبا محتلين لكل ساحل الشام والقدس نحو مائتى سنة فى القرنين الخامس والسادس الهجريين، وكان أمراء المسلمين ومنهم صلاح الدين يقاتلونهم تارة ويصالحونهم تارة، حسب المصلحة، وحسب الحال من القوة والضعف، وقد حدث هذا بمحضر من العلماء والفقهاء الأكابر بغير نكير من أحد. لكن ظهر فى هذه الأيام من لا علم لهم بالدين يرهبون الناس بقميص فلسطين أم القضايا لتجريم أى صلح مع اليهود».
ثم تأتى أهم فقرة من فقرات هذا العنوان: «فلو أن قومًا رأوا مصلحتهم فى الصلح مع إسرائيل ورفضه آخرون، فلا يجوز لمن رفض أن يُحمل تبعات قراره لمن صالحها، ولا يجب على من صالحها نصرة من رفض الصلح إذا دخل الحرب معها. كل إنسان يتحمل تبعات قراره. واليوم اختارت حماس الصدام مع إسرائيل، فليحاسبها شعبها على قرارها، ولكن لا يجوز تحميل الآخرين تبعات قرار حماس، فمن أشعل النار عليه أن يطفئها، ومَن كَسر جَبر».
«كما لا يجوز تحميل الشعب المصرى سداد فاتورة قرار حماس بإرهابه بقميص غزة، من نقع قميص غزة فى الدماء عليه غسله. يكفى الشعب المصرى أنه يدفع من قوت يومه ومن دمائه لفلسطين من ستين سنة ١٩٤٨ حتى ٢٠٠٨، وأبناؤه يغرقون فى البحر المتوسط بحثًا عن لقمة العيش».